[ ص: 140 ] المسألة الثانية  
اختلفوا في  النبي عليه السلام وأمته بعد البعث هل هم متعبدون بشرع من تقدم   ؟  
فنقل عن أصحاب  أبي حنيفة  وعن  أحمد  في إحدى الراويتين عنه وعن بعض أصحاب   الشافعي  أن النبي عليه السلام كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه ، لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها .  
ومذهب  الأشاعرة   والمعتزلة   المنع من ذلك ، وهو المختار ، ويدل على ذلك أمور أربعة :  
الأول :  أن النبي عليه السلام لما بعث  معاذا  إلى  اليمن   قاضيا قال له : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي     " ولم يذكر شيئا من كتب الأنبياء الأولين وسننهم ، والنبي عليه السلام أقره على ذلك ودعا له ، وقال : "  الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله     "  [1] ، ولو كانت من مدارك الأحكام الشرعية لجرت مجرى الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها ، ولم يجز العدول عنها إلى اجتهاد الرأي إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها .  
الثاني : أنه لو كان النبي عليه السلام متعبدا بشريعة من قبله وكذلك أمته ، لكان تعلمها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ، ولوجب على النبي عليه السلام مراجعتها وأن لا يتوقف على نزول الوحي في أحكام الوقائع التي لا يخلو للشرائع الماضية عنها ، ولوجب أيضا على الصحابة بعد النبي عليه السلام مراجعتها والبحث عنها والسؤال لناقليها عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم ؛ كمسألة الجد ، والعول ، وبيع أم الولد ، والمفوضة ، وحد الشرب وغير ذلك ، على نحو بحثهم عن الأخبار النبوية في ذلك ، وحيث لم ينقل شيء من ذلك علم أن شريعة من تقدم غير متعبد بها لهم  [2]    .  
 [ ص: 141 ] الثالث : أنه لو كان متعبدا باتباع شرع من قبله إما في الكل أو البعض ، لما نسب شيء من شرعنا إليه على التقدير الأول ، ولا كل الشرع إليه على التقدير الثاني ، كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى من هو متعبد بشرعه من أمته ، وهو خلاف الإجماع من المسلمين .  
الرابع : أن إجماع المسلمين على أن شريعة النبي عليه السلام ناسخة لشريعة من تقدم فلو كان متعبدا بها ؛ لكان مقررا لها ومخبرا عنها لا ناسخا لها ولا مشرعا ، وهو محال .  
فإن قيل على الحجة الأولى إنما لم يتعرض  معاذ  لذكر التوراة والإنجيل ؛ اكتفاء منه بآيات في الكتاب تدل على اتباعهما على ما يأتي ، ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل لكونهما من الكتب المنزلة .  
وأما الحجة الثانية : لا نسلم أن تعلم ما قيل بالتعبد به من الشرائع ليس من فروض الكفايات ولا نسلم عدم مراجعة النبي عليه السلام لها ، ولهذا نقل عنه مراجعة التوراة في مسألة الرجم ، وما لم يراجع فيه شرع من تقدم ، إما لأن تلك الشرائع لم تكن مبينة له ، أو لأنه ما كان متعبدا باتباع الشريعة السالفة إلا بطريق الوحي ولم يوح إليه به  [3] 
وأما عدم بحث الصحابة عنها ، فإنما كان لأن ما تواتر منها كان معلوما لهم وغير محتاج إلى بحث عنه ، وما كان منها منقولا على لسان الآحاد من الكفار لم يكونوا متعبدين به  [4]    .  
وأما الحجة الثالثة فإنما ينسب إليه ما كان متعبدا به من الشرائع بأنه من شرعه بطريق التجوز لكونه معلوما لنا بواسطته ، وإن لم يكن هو الشارع له .  
وأما الحجة الرابعة فنحن نقول بها وأن ما كان من شرعه مخالفا لشرع من تقدم فهو ناسخ له ، وما لم يكن من شرعه بل هو متعبد فيه باتباع شرع من تقدم ؛ فلا .  
 [ ص: 142 ] ولهذا فإنه لا يوصف شرعه بأنه ناسخ لبعض ما كان مشروعا قبله ، كوجوب الإيمان وتحريم الكفران والزنا والقتل والسرقة وغير ذلك مما شرعنا فيه موافق لشرع من تقدم .  
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على مطلوبكم ، لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة الكتاب والسنة ، أما من جهة الكتاب فآيات .  
الأولى قوله تعالى في حق الأنبياء : (  أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده      ) أمره باقتدائه بهداهم ، وشرعهم من هداهم ، فوجب عليه اتباعه .  
الثانية قوله تعالى : (  إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح      ) ، وقوله تعالى : (  شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا      ) فدل على وجوب اتباعه لشريعة  نوح   [5]    .  
الثالثة قوله تعالى : (  ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم      ) أمره باتباع ملة  إبراهيم   ، والأمر للوجوب .  
الرابعة قوله تعالى : (  إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون      ) والنبي عليه السلام من جملة النبيين ، فوجب عليه الحكم بها .  
وأما السنة فما  روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى التوراة في رجم اليهودي  [6] 
وأيضا ما روي عنه عندما طلب منه القصاص في سن كسرت ، فقال : "  كتاب الله      [ ص: 143 ] يقضي بالقصاص     "  [7] وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة وهو قوله تعالى فيها : (  والسن بالسن      )  
وأيضا ما روي عنه أنه قال : "  من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها     " وتلا قوله تعالى : ( أقم الصلاة لذكري )  [8] وهو خطاب مع  موسى   عليه السلام .  
والجواب قولهم : ( إنما لم يذكر  معاذ  التوراة والإنجيل لدلالة القرآن عليهما ) لا نسلم ذلك وما يذكرونه في ذلك فسيأتي الكلام عليه ، وإن سلمنا ذلك لكن لا يكون ذلك كافيا عن ذكرهما ، كما لو لم يكن ما في القرآن من ذكر السنة والقياس على ما بيناه  [9] كافيا أو أن لا يكون إلى ذكر السنة والقياس في خبر  معاذ  حاجة ، وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل .  
قولهم : ( إن الكتب السالفة مندرجة في لفظ الكتاب ) ليس كذلك ؛ لأن المتبادر من إطلاق لفظ الكتاب في شرعنا عند قول القائل : قرأت كتاب الله وحكمت بكتاب الله القرآن . ليس غير القرآن ، وذلك لما علم من معاناة المسلمين لحفظ القرآن ودراسته والعمل بموجباته دون غيره من الكتب السالفة .  
قولهم : لا نسلم أن تعلم ما تعبد به من الشرائع الماضية ليس فرضا على الكفاية .  
قلنا : لأن إجماع المسلمين قبل ظهور المخالفين على أنه لا تأثيم بترك النظر على كافة المجتهدين في ذلك  [10] 
 [ ص: 144 ] وأما مراجعة النبي عليه السلام التوراة فإنما كان لإظهار صدقه فيما كان قد أخبر به من أن الرجم مذكور في التوراة ، وإنكار اليهود ذلك لا لأن يستفيد حكم الرجم منها  [11] ولذلك فإنه لم يرجع إليها فيما سوى ذلك .  
وما ذكروه في امتناع بحث الصحابة عن ذلك فغير صحيح ؛ لأن ما نقل من ذلك متواترا إنما يعرفه من خالط النقلة له وكان فاحصا عنه ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة شيء من ذلك ، كيف وإنه قد كان يمكن معرفة ذلك ممن أسلم من أحبار اليهود ، وهو ثقة مأمون   كعبد الله بن سلام   وكعب الأحبار  وغيرهما ؟ ! ولم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الأمة السؤال لهم عن ذلك ، وما ذكروه على الحجة الثالثة فترك للظاهر المشهور المتبادر إلى الفهم من غير دليل فلا يسمع .  
وما ذكروه على الحجة الرابعة فمندفع ، وذلك لأن إطلاق الأمة أن شرع النبي عليه السلام ناسخ للشرائع السالفة بينهم يفهم منه أمران ؛ أحدهما : رفع أحكامها . والثاني : أنه غير متعبد بها  [12] 
فما لم يثبت رفعه من تلك الأحكام بشرعه ضرورة استمراره فلا يكون ناسخا له ، فيبقى المفهوم الآخر وهو عدم تعبده به ، ولا يلزم من مخالفة دلالة الدليل على أحد مدلوليه مخالفته بالنظر إلى المدلول الآخر .  
والجواب عن المعارضة بالآية الأولى أنه إنما أمره باتباع هدى مضاف إلى جميعهم ، مشترك بينهم دون ما وقع به الخلاف فيما بينهم ، والناسخ والمنسوخ منه لاستحالة اتباعه وامتثاله ، والهدى المشترك فيما بينهم إنما هو التوحيد ، والأدلة      [ ص: 145 ] العقلية الهادية إليه  [13] وليس ذلك من شرعهم في شيء ، ولهذا قال : (  فبهداهم اقتده      ) ولم يقل " بهم " .  
وبتقدير أن يكون المراد من الهدى المشترك ما اتفقوا فيه من الشرائع دون ما اختلفوا فيه فاتباعه له إنما كان بوحي إليه وأمر مجدد لا أنه بطريق الاقتداء بهم .  
[14] وعن قوله تعالى : (  إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح      ) أنه لا دلالة له على أنه موحى إليه بعين ما أوحي به إلى  نوح   والنبيين من بعده حتى يقال باتباعه لشريعتهم ، بل غايته أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين قطعا لاستبعاد ذلك وإنكاره ، وبتقدير أن يكون المراد به أنه أوحى إليه بما أوحى به إلى غيره من النبيين ، فغايته أنه أوحى إليه بمثل شريعة من قبله بوحي مبتدإ لا بطريق الاتباع لغيره .  
[15] وعن قوله تعالى : (  شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا      ) أن المراد من الدين إنما هو أصل التوحيد لا ما اندرس من شريعته ، ولهذا لم ينقل عن النبي عليه السلام البحث عن شريعة  نوح   [16] ، وذلك مع التعبد بها في حقه ممتنع ، وحيث خصص      [ ص: 146 ] نوحا   بالذكر  [17] مع اشتراك جميع الأنبياء في الوصية بالتوحيد كان تشريفا له وتكريما ، كما خصص روح  عيسى   بالإضافة إليه والمؤمنين بلفظ العباد . وعن قوله تعالى : (  ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم      ) أن المراد بلفظ الملة إنما هو أصول التوحيد وإجلال الله تعالى بالعبادة دون الفروع الشرعية  [18] ويدل على ذلك أربعة أوجه :  
الأول : أن لفظ الملة لا يطلق على الفروع الشرعية بدليل أنه لا يقال : ملة   الشافعي  وملة  أبي حنيفة  لمذهبيهما في الفروع الشرعية .  
الثاني : أنه قال عقيب ذلك : (  وما كان من المشركين      ) ذكر ذلك في مقابلة الدين ، ومقابل الشرك إنما هو التوحيد .  
الثالث : أنه قال : (  ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه      ) ولو كان المراد من الدين الأحكام الفرعية لكان من خالفه فيها من الأنبياء سفيها  [19] ، وهو محال .  
الرابع : أنه لو كان المراد من الدين فروع الشريعة لوجب على النبي عليه السلام البحث عنها لكونه مأمورا بها ، وذلك مع اندراسها ممتنع . ثم وإن سلمنا أن المراد بالملة الفروع الشرعية غير أنه إنما وجب عليه اتباعها بما أوحي ، ولهذا قال : (  ثم أوحينا إليك      ) .  
وعن قوله تعالى : (  إنا أنزلنا التوراة      ) الآية ، أن قوله : (  يحكم بها النبيون      ) صيغة إخبار لا صيغة أمر ، وذلك لا يدل على وجوب اتباعها ، وبتقدير أن يكون ذلك أمرا فيجب حمله على ما هو مشترك الوجوب بين جميع الأنبياء ، وهو التوحيد      [ ص: 147 ] دون الفروع الشرعية المختلف فيها فيما بينهم لإمكان تنزيل لفظ النبيين على عمومه بخلاف التنزيل على الفروع الشرعية ، كيف وإن هذه الآيات متعارضة والعمل بجميعها ممتنع ، وليس العمل بالبعض أولى من البعض .  
[20] وعن الخبر الأول : وهو رجوع النبي عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهودي ما سبق .  
وعن الخبر الثاني : لا نسلم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن بالسن ، ودليله قوله تعالى : (  فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم      ) وهو عام في السن وغيره .  
وعن الخبر الثالث : أنه لم يذكر الخطاب مع  موسى   لكونه موجبا لقضاء الصلاة عند النوم والنسيان ، وإنما أوجب ذلك بما أوحي إليه ونبه على أن أمته مأمورة بذلك ، كما أمر  موسى   عليه السلام .  
ثم ما ذكرتموه من النقل معارض بقوله عليه السلام : "  بعثت إلى الأحمر والأسود     " وكل نبي بعث إلى قومه  [21] ، والنبي عليه السلام لم يكن من أقوام الأنبياء المتقدمين ، فلا يكون متعبدا بشرعهم وبما روي عنه عليه السلام أنه  رأى مع   عمر بن الخطاب   [ ص: 148 ] قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال : ألم آت بها بيضاء نقية ، لو أدركني أخي  موسى   لما وسعه إلا اتباعي     .  [22] أخبر بأن  موسى   لو كان حيا لما وسعه إلا اتباعه ، فلأن لا يكون النبي عليه السلام متبعا  لموسى   بعد موته أولى ، وربما عورض أيضا بقوله تعالى : (  لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا      ) والشرعة : الشريعة ، والمنهاج : الطريق ، وذلك يدل على عدم اتباع الأخير لمن تقدم من الأنبياء ; لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من اختص بها دون التابع لها ، ولا حجة فيه فإن الشرائع وإن اشتركت في شيء فمختلفة في أشياء ، وباعتبار ما به الاختلاف بينها كانت شرائع مختلفة ، وذلك كما يقال : لكل إمام مذهب باعتبار اختلاف الأئمة في بعض الأحكام ، وإن وقع الاتفاق بينهم في كثير منها .  
وربما أورد النفاة في ذلك طرقا أخرى شتى ضعيفة ، آثرنا الإعراض عن ذكرها .  
وكما أن النبي عليه السلام لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم إلا بوحي مجدد لم يكن قبل بعثته على ما كان قومه عليه ، بل كان متجنبا لأصنامهم معرضا عن أزلامهم ، ولا يأكل من ذبائحهم على النصب  [23] ، هذا هو مذهب أصحاب   الشافعي  وأئمة المسلمين .  
ومن الأصوليين من قال بالوقف وهو بعيد .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					