[ ص: 149 ] النوع الثاني : مذهب الصحابي وفيه مسألتان :  
المسألة الأولى  
اتفق الكل على أن  مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد  لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إماما كان أو حاكما أو مفتيا .  
واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين :  
فذهبت  الأشاعرة   ،  والمعتزلة   ،   والشافعي  في أحد قوليه ،   وأحمد بن حنبل  في إحدى الروايتين عنه ،  والكرخي     : إلى أنه ليس بحجة .  
وذهب   مالك بن أنس  والرازي  والبرذعي  من أصحاب  أبي حنيفة  ،   والشافعي  في قول له ،   وأحمد بن حنبل  في رواية له : إلى أنه حجة مقدمة على القياس .  
وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا .  
وذهب قوم إلى أن الحجة في قول  أبي بكر  وعمر  دون غيرهما .  
والمختار أنه ليس بحجة مطلقا ، وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك .  
الحجة الأولى : قوله تعالى : (  فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول      ) أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول ، فالرد إلى  مذهب الصحابي  يكون تركا للواجب وهو ممتنع .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن قوله تعالى : (  فردوه إلى الله والرسول      ) يدل على الوجوب على ما سبق تقريره  [1] ، فالرد إلى مذهب الصحابي لا يكون تركا للواجب ، وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند إمكان الرد ، وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبينا في الكتاب أو السنة ، وأما بتقدير أن لا يكون مبينا فيهما فلا .  
 [ ص: 150 ] ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة .  
الحجة الثانية : قالوا : أجمعت الصحابة على جواز  مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر  ، ولو كان مذهب الصحابي حجة لما كان كذلك ، وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال .  
ولقائل أن يقول : الخلاف إنما هو في كون مذهب الصحابي حجة على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم ، لا مجتهدة الصحابة  [2] ، فلم يكن الإجماع دليلا على محل النزاع .  
الحجة الثالثة : أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه ، فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين .  
ولقائل أن يقول : لا يلزم من امتناع وجوب  العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله  وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله ، امتناع وجوب عمل التابعي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام : (  خير القرون القرن الذي أنا فيه     )  [3] ، وقال عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "  [4] ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم .  
 [ ص: 151 ] الحجة الرابعة : أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل ، وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر ، كما في مسائل الجد مع الأخوة ، وقوله " أنت علي حرام " كما سبق تعريفه ، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفة متناقضة ، ولم يكن اتباع التابعي للبعض أولى من البعض .  
ولقائل أن يقول : اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها عن كونها حججا في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، ويكون العمل بالواحد منها متوقفا على الترجيح ، ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب الوقف أو التخيير ، كما عرف فيما تقدم .  
[5] الحجة الخامسة :  أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ ، فلا يقدم على القياس كالتابعي     .  
ولقائل أن يقول : اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على القياس كخبر الواحد ، ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس امتناع ذلك في مذهب الصحابي ; لما بيناه من الفرق بينهما .  
[6]  [ ص: 152 ] الحجة السادسة : أن التابعي متمكن من تحصيل الحكم بطريقه ، فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول .  
ولقائل أن يقول : اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليدا له إن لو لم يكن قوله حجة متبعة ، وهو محل النزاع ، وخرج عليه الأصول ، فإن القطع واليقين معتبر فيها ، ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة ، فكان اتباعه في مذهبه تقليدا من غير دليل ، وذلك لا يجوز .  
[7] والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله تعالى : (  فاعتبروا يا أولي الأبصار      ) أوجب الاعتبار  [8] وأراد به القياس كما سبق تقريره في إثبات كون القياس حجة ، وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي وتقديمه على القياس ، فإن قيل : لا نسلم دلالة ذلك على وجوب اتباع القياس ، وقد سبق تقريره من وجوه ، سلمنا دلالته على ذلك ، لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .  
أما الكتاب فقوله تعالى : (  كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف      ) وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف ، والأمر بالمعروف واجب القبول .  
وأما السنة فقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ،  [9] ، وقوله عليه السلام : "  اقتدوا بالذين من بعدي  أبي بكر  وعمر     "  [10] ، ولا يمكن      [ ص: 153 ] حمل ذلك على مخاطبة العامة والمقلدين لهم ; لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ، ولما فيه من إبطال فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير الصحابة من المجتهدين ، فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم .  
وأما الإجماع : فهو أن   عبد الرحمن بن عوف  ولى  عليا  رضي الله عنه الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى ، وولى  عثمان  فقبل ، ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعا .  
[11] وأما المعقول فمن وجوه :  
الأول : أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال      [ ص: 154 ] مستند أو يكون : لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلا في الشريعة بحكم لا دليل عليه ، وهو محرم ، وحال الصحابي العدل ينافي ذلك .  
وإن كان الثاني فلا مستند وراء القياس سوى النقل ، فكان حجة متبعة .  
الثاني : أن  قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر  كان حجة ، فكان حجة مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام .  
الثالث : أن  مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد  ، فإن كان الأول كان حجة ، وإن كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده ; لترجحه بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره ، فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي ، فوجب اتباعه له .  
والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه ، وعن القوادح ما سبق .  
وعن المعارضة بالكتاب : أنه لا دلالة فيه ; لما سبق في إثبات الإجماع ، وإن كان دالا فهو خطاب مع جملة الصحابة ، ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجة أن يكون قول الواحد والاثنين حجة .  
وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضا ; لما سبق في الإجماع ، ولأن الخبر الأول وإن كان عاما في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه ، وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه ، وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني .  
وعن الإجماع : أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على  عبد الرحمن  وعثمان  ذلك ; لأنهم حملوا لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب ، بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين .  
كيف وأنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما ، فالقائل بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه ، والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم اتباعه على غيره من المجتهدين ، ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار      [ ص: 155 ] إما على  علي  حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجبا ، وإما على  عثمان   وعبد الرحمن بن عوف  إن كان الاقتداء بالشيخين محرما ، وذلك ممتنع .  
وعن المعارضة الأولى من المعقول : أنها منتقضة بمذهب التابعي ، فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق .  
وعن الثانية : أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر أيكون  [12] ذلك إجماعا أم لا يكون إجماعا ، فإن كان الأول فالحجة في الإجماع لا في مذهب الصحابي ، وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر ، وإن كان الثاني فلا حجة فيه مطلقا ، كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجة ، ولا يكون حجة بتقدير عدم انتشاره إجماعا .  
وعن الثالثة : لا نسلم أن مستنده النقل ; لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه ; لأنه من العلوم النافعة ، وقد قال عليه السلام : "  من كتم علما نافعا ألجمه الله بلجام من نار     " ، وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي ، فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند ذلك فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين بعده ; لجواز أن يكون دون غيره في الاجتهاد ، وإن كان متميزا بما ذكروه من الصحبة ولوازمها  [13] ، ولهذا قال عليه السلام : "  فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه     " .  
[14] ثم هو منتقض بمذهب التابعي ، فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين ، وإن كانت نسبته إلى تابعي التابعين كنسبة الصحابي إليه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					