الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله وعلى الوارث مثل ذلك هذا منسوق على قوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن المعنى: على وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل الذي كان على أبيه في حياته.

                                                                                                                                                                                                                                      وأراد بـالوارث: من كان عصبته كائنا من كان من الرجال في قول عمر بن الخطاب والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون: أراد بـالوارث: الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى، عليه أجر رضاعه من ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت أمه على رضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فإن أرادا يعني: الوالدان، فصالا فطاما للولد، عن تراض منهما يعني: قبل الحولين، وتشاور معنى "التشاور": استخراج الرأي، وكذلك المشورة والمشورة، ومنه يقال: شرت العسل، إذا استخرجته.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: أنهما إن تشاورا وتراضيا على الفطام قبل الحولين  فلا بأس إذا كان الولد قويا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 343 ] وقوله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم أي: لأولادكم، وحذفت اللام اكتفاء بدلالة الاسترضاع ؛ لأنه لا يكون إلا للأولاد، والمعنى: وإن أردتم أن تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدة، فلا جناح عليكم فلا إثم عليكم، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف قال مجاهد والسدي: إذا سلمتم إلى الأم أجرتها بمقدار ما أرضعت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير ما أتيتم بقصر الألف، ومعناه: ما فعلتم، يقال: أتيت جميلا.

                                                                                                                                                                                                                                      أي: فعلته، قال زهير:


                                                                                                                                                                                                                                      وما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل

                                                                                                                                                                                                                                      يعني: فعلوه وقصدوه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويكون التسليم على هذه القراءة بمعنى الطاعة والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، والمعنى: إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: إذا سلمت أمه ورضي أبوه، لعل له غنى يشتري له مرضعا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أوصى بالتقوى فقال: واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير أي: فلا يترك جزاء شيء من أعمالكم ؛ لأنه بصير بها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: والذين يتوفون منكم أي: يموتون ويقبضون، ومعنى التوفي: أخذ الشيء وافيا، يقال: توفى الشيء واستوفاه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويذرون يتركون، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر ومثله، أيضا، يدع في رفض مصدره وماضيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: أزواجا أي: نساء، يتربصن بأنفسهن أي: ينتظرن ويحبسن أنفسهن عن التزوج، أربعة أشهر وعشرا ومعنى الآية: بيان عدة المتوفى عنها زوجها،  وأنها تعتد من حين وفاة الزوج أربعة أشهر وعشرا، وذكرت العشر بلفظ التأنيث، والمراد بها: الأيام، تغليبا لليالي على الأيام، وذلك أن ابتداء الشهر يكون بالليل. [ ص: 344 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن السكيت: يقولون: صمنا خمسا من الشهر، فيغلبون الليالي على الأيام ؛ لأن ليلة كل يوم قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآية ناسخة لقوله: متاعا إلى الحول .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو القاسم السراج، حدثنا محمد بن يعقوب المعقلي، حدثنا العباسي الدوري، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمها أم سلمة: " أن امرأة توفي عنها زوجها، واشتكت عينها حتى خشي عليها فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أنكتحل؟  فقال: قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها في بيتها حولا كاملا، فإذا مر كلب رمت ببعرة، ثم خرجت، أفلا أربعة أشهر وعشرا "؟ ، رواه البخاري، عن آدم، عن شعبة، ورواه مسلم، عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة [ ص: 345 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو طاهر الزيادي، قال: حدثنا أبو الطيب محمد بن المبارك الشعيري، حدثنا محمد بن أشرس السلمي، حدثنا إبراهيم بن سليمان الزيات، عن بحر بن كنيز السقاء، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج، فإنها تحد على الزوج أربعة أشهر وعشرا"   .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم يخاطب الأولياء ؛ لأن الرجال قوامون على النساء،  فذكر أنهن إذا انقضت عدتهن لا جناح على الأولياء في تخلية سبيلهن، فيما فعلن ليفعلن، في أنفسهن بالمعروف ما يرون من تزوج الأكفاء بإذن الأولياء، وهذا تفسير "المعروف" ؛ لأن التي تزوج نفسها سماها النبي صلى الله عليه وسلم زانية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      "التعريض": ضد التصريح، وهو أن تضمن الكلام دلالة على ما تريد.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الخطبة": التماس النكاح،  يقال: خطب فلان فلانة، إذا أراد أن يتزوجها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 346 ] قال المفسرون: معنى التعريض بالخطبة:  أن يقول لها، وهي في عدة الوفاة: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك لنافقة، وإن من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب، وما أشبه هذا الكلام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أو أكننتم في أنفسكم أي: أسررتم وأضمرتم من خطبتهن.

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد: هو إسرار العزم على النكاح دون إظهار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي: هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (الاكتنان ): الإخفاء والستر، يقال: أكننت الشيء وكننته، إذا سترته. لغتان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: علم الله أنكم ستذكرونهن يعني الخطبة، ولكن لا تواعدوهن سرا قال الشعبي والسدي: لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، وعطية: "السر": هو الزنا، وكان الرجل يدخل على المرأة للريبة وهو يعرض بالنكاح، ويقول لها: دعيني، فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك ؛ فنهى الله عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إلا أن تقولوا قولا معروفا يعني: التعريض بالخطبة كما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولا تعزموا عقدة النكاح أي: لا تصححوا عقد النكاح، يعني: لا تتزوجوا المعتدة، حتى يبلغ الكتاب أجله أي: حتى تنقضي عدتها.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الكتاب": هو القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم مطلع على ضمائركم، فاحذروه فخافوه، واعلموا أن الله غفور حليم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 347 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية