الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يا أيها الإنسان مخاطبة للكافر، ما غرك بربك الكريم ما خدعك، وسول لك الباطل حتى أضعت، فأوجب عليك؟ والمعنى: ما الذين أمنك من عقابه؟ يقال: غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته وهو غير مأمون.

                                                                                                                                                                                                                                      قال عطاء : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقال الكلبي ، ومقاتل : نزلت في أبي الأشدين ، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعاقبه الله تعالى، وأنزل هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      يقول: ما الذي غرك بربك الكريم، المتجاوز عنك؛ إذ لم يعاقبك عاجلا بكفرك؟ قال قتادة : غره عدوه المسلط عليه، يعني: الشيطان. وقال مقاتل : غره عفو الله عنه، حين لم يعاقبه في أول أمره.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو إسحاق الثعالبي ، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ ، نا أبو علي بن جيش المقري ، نا أبو القاسم بن الفضل المقري ، نا علي بن الحسين ، نا المقدمي ، نا كثير بن هشام ، نا جعفر بن برقان ، حدثني [ ص: 435 ] صالح بن مسمار ، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ثم قال: جهله وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ وقال إبراهيم بن الأشعث : قيل للفضيل بن عياض : لو أقامك الله يوم القيامة، فقال: ما غرك بربك الكريم؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول: غرني ستورك المرخاة. فنظمه محمد بن السماك ، فقال:


                                                                                                                                                                                                                                      يا كاتم الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا     غرك من ربك إمهاله
                                                                                                                                                                                                                                      وستره طول مساويكا



                                                                                                                                                                                                                                      وتلا السري بن مغلس هذه الآية، فقال: غره رفق الله به. وقال يحيى بن معاذ : لو أقامني الله بين يديه، فقال: ما غرك بي؟ قلت: غرني بك برك بي سالفا وآنفا. وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي: ما غرك بربك الكريم؟ لقلت: غرني كرم الكريم. وقال منصور بن عمار : لو قال لي: ما غرك بربك الكريم؟ قلت: يا رب، ما غرني إلا ما علمته من فضلك على عبادك. وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى:


                                                                                                                                                                                                                                      يا من غلا في الغي والتيه     وغره طول تماديه
                                                                                                                                                                                                                                      أملى لك الله فبارزته     ولم تخف غب معاصيه



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 436 ] وقوله: "الذي خلقك" أي: من نطفة، ولم تك شيئا، فسواك رجلا، تسمع وتبصر، "فعدلك" جعلك معتدلا، قال عطاء : جعلك قائما، معتدلا، حسن الصورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : عدل خلقك في العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين، والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان، وقرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف، قال الفراء : فصرفك إلى أي صورة ما شاء. قال: والتشديد أحسن الوجهين، لأنك تقول: عدلتك إلى كذا، كما تقول: صرفتك إلى كذا، ولا يحسن عدلتك فيه، ولا صرفتك فيه، وقال أبو علي الفارسي : معنى التخفيف: عدل بعضه ببعض، وكنت معتدل الخلقة متناسبها، فلا تفاوت فيها، ولا يلزم على هذا ما ألزم الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: في أي صورة ما شاء ركبك قال مقاتل ، والكلبي : في أي شبه من أب، أو أم، أو خال، أو عم.

                                                                                                                                                                                                                                      يدل على صحة هذا التفسير ما.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد بن عبد الله زكريا الشيباني ، أنا أبو سهل بشر بن أحمد بن بشر ، نا أبو زكريا يحيى بن محمد بن محمد بن البحتري ، نا أبو كامل ، نا وهب بن سوار ، حدثني والدي سوار ، أن أبا قلابة حدثه، أن رجلا من الأنصار ولد له غلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا فلان مثل من أشبه ابنك، فقال: يا رسول الله وهل عسى أن يشبه إلا أباه أو أمه؟ قال: فأنكره عليه ثم قال: إن الإنسان إذا ما أخذ في خلقه أحضر كل عرق بينه وبين آدم  ثم قرأ في أي صورة ما شاء ركبك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية