الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون  الحق من ربك فلا تكن من الممترين  فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين  إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم  فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد التميمي، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد الرازي، حدثنا سهل بن عثمان العسكري، حدثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن قال: جاء راهبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام، فقال أحدهما: إنا قد أسلمنا قبلك، فقال: كذبتما، إنه يمنعكم من الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم: لله ولد، قالا: من أبوعيسى؟ فأنزل الله عز وجل: إن مثل عيسى عند الله الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: أن قياس خلق عيسى من غير ذكر كقياس خلق آدم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى عند الله : أي: في الخلق والإنشاء ثم ذكر خلق آدم فقال: خلقه من تراب يعني: قالبا من تراب لا روح فيه، ثم قال له كن بشرا، فيكون بمعنى: فكان، وهذا مما أريد بمثال المستقبل فيه الماضي، كقوله: تتلو الشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: الحق من ربك قال الفراء والزجاج: الحق: مرفوع بخبر ابتداء محذوف، على تقدير: الذي أنبأتك به من قصة عيسى الحق، فحذف لتقدم ذكره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة: هو ابتداء وخبره من ربك كما تقول: الحق من ربك والباطل من الشيطان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فلا تكن من الممترين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به: نهي غيره عن الشك، كما قال: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ، [ ص: 444 ] والامتراء: الشك، والممتري: الشاك، يقال للشك: المرية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فمن حاجك أي: جادلك وخاصمك، فيه في عيسى، فقل تعالوا أي: ائتوا وهلموا، ندع أبناءنا وأبناءكم قال المفسرون: لما احتج الله تعالى على النصارى من طريق القياس بقوله: إن مثل عيسى الآية، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم من طريق الإعجاز، وهو المباهلة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى "المباهلة":  الدعاء على الظالم من الفريقين.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: "إذا دعوت فأمنوا".

                                                                                                                                                                                                                                      فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قبلوا الجزية وانصرفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا"
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد الزعفراني، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن إسحاق [ ص: 445 ] الثقفي، حدثنا قتيبة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: لما نزل قوله تعالى: ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، وقال: "هؤلاء أهلي" رواه أحمد في مسنده عن قتيبة وأراد "بالأنفس": بني العم، والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس، وقد تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم أراد: إخوانكم من المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ثم نبتهل الابتهال في اللغة على معنيين،  أحدهما: التضرع إلى الله، والثاني: الالتعان والدعاء بالبهلة وهي اللعنة، يقال: عليه بهلة الله.

                                                                                                                                                                                                                                      أي: لعنته.

                                                                                                                                                                                                                                      وكلا القولين مروي عن ابن عباس، قال، في رواية الكلبي، في قوله: نبتهل: أي: نجتهد في الدعاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في رواية عطاء: ندع الله باللعنة على الكاذبين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إن هذا لهو القصص الحق أي: هذا الذي أوحيناه إليك من الآيات والحجج، والقصص: مصدر، من قولك: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 446 ] القصص الحق القرآن الصادق فيما أخبر به، وما من إله إلا الله نفي لجميع ما ادعى المشركون أنهم آلهة، أي أن عيسى ليس بإله كما زعموا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإن الله لهو العزيز الحكيم أي: لا أحد يستحق إطلاق هذه الصفة إلا هو.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين أي: فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان فإن الله يعلم من يفسد خلقه، فيجازيه على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية