الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين  وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون  واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا يعني الأوس والخزرج، إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال عكرمة: كان بين هذين الحيين من الأوس والخزرج قتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام اصطلحوا [ ص: 472 ] وألف الله بين قلوبهم، فجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج، فأنشد شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فدخلهم من ذلك شيء، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: لعلكم تهتدون ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأهن، ورفع صوته، فلما سمعوا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصتوا له، وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، وجثوا يبكون.


                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكيف تكفرون الآية، قال الزجاج: أي: على أي حال يقع منكم الكفر، وآيات الله التي تدل على توحيده، ونبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بين أظهركم؟ ! ومن يعتصم بالله يتمسك بحبل الله ويمتنع به، فقد هدي إلى صراط مستقيم يعني الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته قال ابن مسعود: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي، عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين مشقة شديدة ولم يطيقوا ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، فلم يطق ذلك العباد، فأنزل الله على نبيه عليه السلام: فاتقوا الله ما استطعتم يقول: ما أطقتم.

                                                                                                                                                                                                                                      فلم يكلف العباد من طاعته وعبادته إلا ما استطاعوا، فنسخت هذه الآية ما قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 473 ] وقال قتادة: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ثم أنزل الله التخفيف واليسر بعد ذلك فقال: فاتقوا الله ما استطعتم .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو بكر الأصبهاني، أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا العباسي بن أحمد البرتي، حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي سعيد قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أوصني، قال: عليك بتقوى الله، فإنه جماع كل خير، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية المسلمين، وعليك بذكر الله وتلاوة كتابه فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء واخزن لسانك إلا من خير، فإنك بذلك تغلب الشيطان. قوله: ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون مفسر في سورة البقرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل: واعتصموا بحبل الله جميعا 44 قال عبد الله: حبل الله: الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الضحاك وقتادة والسدي: "حبل الله": القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة: الاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة، واتباع القرآن; لأن المؤمن إذا اتبع القرآن أمن من العذاب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 474 ] وروى معمر، عن قتادة في قوله: واعتصموا بحبل الله قال: بعهد الله وبأمره.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري: سمي عهد الله حبلا لأنه سبب النجاة، كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر ونحوها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولا تفرقوا قال ابن عباس: أي: كما كنتم في الجاهلية مقتتلين على غير دين الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: أي: تناصروا على دين الله ولا تفرقوا.

                                                                                                                                                                                                                                      واذكروا نعمت الله عليكم بدين الإسلام، إذ كنتم أعداء يعني ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب التي تطاولت عشرين ومائة سنة، إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد، وصاروا إخوانا في الإسلام متوادين، وذلك قوله: فأصبحتم بنعمته إخوانا أي: برحمته، يعني الإسلام، إخوانا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكنتم على شفا حفرة من النار "شفا الشيء": حرفه، مثل: شفا البئر، والجمع: الأشفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: يريد: لو متم على ما كنتم عليه في الجاهلية لكنتم من أهل النار.

                                                                                                                                                                                                                                      فأنقذكم منها أي: خلصكم ونجاكم بدينه الإسلام ومحمد عليه السلام، يقال: أنقذته وتنقذته.

                                                                                                                                                                                                                                      أي: خلصته، وقوله: كذلك أي: كالبيان الذي ذكر، يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون لكي تهتدوا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية