الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا  وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا  ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما  فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما  وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين [ ص: 79 ] يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا  الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم هذه الآية حث من الله على الجهاد ، والحذر بمعنى الحذر كالمثل ، وتقول العرب : خذ حذرك أي : احذر .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : احذروا عدوكم بأخذ العدة والسلاح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فانفروا ثبات يقال : نفر القوم ينفرون نفرا ، إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا لحرب .

                                                                                                                                                                                                                                      والثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة ، قال قتادة : الثبات : الفرق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : عصبا متفرقين .

                                                                                                                                                                                                                                      أو انفروا جميعا خيرهم الله تعالى بين أن يقاتلوا جميعا وبين أن يقاتل بعضهم دون بعض ، فدل على أن الجهاد ليس من فروض الأعيان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : وإن منكم لمن ليبطئن يعني : عبد الله بن أبي ، كان يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لغزو ، والخطاب للمؤمنين وجعله منهم من حيث الظاهر ، وهو حقن الدم والموارثة ، والتبطئة : التأخر عن الأمر ، تقول العرب : ما بطأ بك عنا .

                                                                                                                                                                                                                                      أي : ما أخرك ، يقال : بطؤ بطأ ، وأبطأ إبطاء ، وبطأ تبطئة بمعنى واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل : ليبطئن أي : ليتخلفن عن الجهاد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي : ليتثاقلن .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن أصابتكم مصيبة من القتل وجهد من العيش ، قال قد أنعم الله علي بالقعود ، إذ لم أكن معهم شهيدا أي : لم أحضر معهم فيصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 80 ] ولئن أصابكم فضل من الله فتح ونصر وغنيمة ، ليقولن : هذا المنافق قول نادم حاسد : يا ليتني كنت معهم لأسعد بمثل ما سعدوا به من الغنيمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة متصل في النظم بقوله : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم كأن لم تكن بينكم وبينه مودة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري : كأن لم يعاقدكم على الإسلام ، ولم يبايعكم على الصبر والثبات فيه على ما ساء وسر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ : تكن بالياء والتاء ، فالتأنيث على الأصل ، والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأفوز فوزا عظيما قال مقاتل : آخذ نصيبا وافرا ، وإنما قال هذا حرصا على الدنيا ، وميلا إليها ولا رغبة في الثواب .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذم الله تعالى المنافق بالاحتباس عن الجهاد ، أمر المؤمنين بالقتال فقال سبحانه : فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي : يبيعون ، يقال : شريت .

                                                                                                                                                                                                                                      بمعنى : بعت .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنهم يختارون الجنة على البقاء في الدنيا ، فيجاهدون طلبا للشهادة في سبيل الله ، ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل شهيدا أو يغلب فينظر ويقتل هو ، فكلاهما سواء في الثواب ، وهو قوله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ، قال ابن عباس : ثوابا لا صفة له .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله قال المفسرون : هذا حض من الله تعالى على الجهاد في سبيله لاستنقاذ المؤمنين من أيدي المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : لا عذر لكم في ترك القتال في سبيل الله ، وفي المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، [ ص: 81 ] قال ابن عباس : يريد قوما بمكة قد استضعفوا ، فحبسوا وعذبوا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : وكنت أنا وأمي من المستضعفين .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يكن لهم قوة يمتنعون بها من المشركين ، ولم يقدروا أن يهاجروا إلى المدينة فكانوا يدعون الله ويقولون : ربنا أخرجنا : إلى المدينة دار الهجرة ، من هذه القرية يعني مكة ، الظالم أهلها يريد : جعلوا لله شركاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : الظالم أهلها : نعت للقرية .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما وحد الظالم لأنه صفة يقع موضع الفعل ، يقال : مررت بالقرية الصالح أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                      أي : التي صلح أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليا ول علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بأمورنا ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ينصرنا على عدونا ويمنعنا منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فاستجاب الله دعاءهم ، وولى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما فتحت مكة ، عتاب بن أسيد فكان ينصف المظلوم من الظالم ، والضعيف من الشديد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله في نصرة دين الله ، وهو سبيله الذي يؤدي إلى ثوابه ورحمته ، والذين كفروا : يعني : المشركين واليهود والنصارى ، يقاتلون في سبيل الطاغوت في طاعة الشيطان ، فقاتلوا أولياء الشيطان قال ابن عباس : يعني : عبدة الأصنام إن كيد الشيطان سعيه في إيقاع الضرر بالمؤمنين على جهة الاحتيال ، كان ضعيفا يعني : خذلانه إياهم يوم قتلوا ببدر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية