قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه وقرأ أهل الحجاز : يرتدد بإظهار دالين ، قال : وهو الأصل ؛ لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف نحو إن يمسسكم ويجوز في اللغة : "إن يمسكم " ؛ لأنه يحرك الثاني بالفتح عند الإدغام . الزجاج
قال : علم الله أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم ، فأخبر أنه : الحسن فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه واختلفوا في ذلك القوم من هم ؟ فقال علي بن أبي طالب ، ، والحسن والضحاك ، ، وقتادة هم وابن جريج : أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومنكري الزكاة .
قال : لما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب ، إلا قتادة أهل مكة وأهل المدينة وأهل البحرين من عبد قيس ، فقال المرتدون : أما الصلاة فنصلي ، وأما الزكاة فلا تغصب أموالنا ، فكلم أبو بكر في ذلك ، فقال : والله لا أفرق بين ما جمع الله ، قال الله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، والله لو منعوني عقالا مما أدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه .
فبعث الله عصائب مع أبي بكر ، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة المفروضة ، قال كرهت الصحابة أنس بن مالك : وقالوا : أهل القبلة ، فتقلد قتال مانعي الزكاة ، أبو بكر سيفه وخرج وحده ، فلم يجدوا بدا من الخروج على إثره .
[ ص: 200 ] وقال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ، وحمدناه في الانتهاء ، ورأينا ذلك رشدا .
وقال : لولا ما فعل الحسن أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة .
وقال سمعت أبو بكر بن عياش : يقول : ما ولد لآدم في ذريته بعد النبيين مولود أفضل من أبا حصين أبي بكر ، ولقد قام يوم الردة مقام نبي من الأنبياء .
وقال آخرون : المراد بقوله : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم الآية : الأشعريون وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم على ما .
أخبرنا الأستاذ أبو إبراهيم الواعظ ، أخبرنا أخبرنا الإمام أبو بكر الإسماعيلي ، أبو خليفة الجمحي ، حدثنا أبو عمرو الحوضي ، حدثنا عن شعبة ، سماك ، عن قال : عياض الأشعري ، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هم قوم هذا " يعني : أبا موسى الأشعري . لما نزلت هذه الآية
رواه في صحيحه ، عن الحاكم أبو عبد الله عثمان بن السماك ، عن عبد الملك بن محمد ، عن عن وهب بن جرير ، وقوله : شعبة أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين قال : تراهم للمؤمنين كالولد لوالده ، وكالعبد لسيده ، وهم في الغلظة على الكافر كالسبع على فريسته ، وهذا كقوله : ابن عباس أشداء على الكفار رحماء بينهم .
قال في هذه الآية : يقول الله تعالى : إن ارتد أحد عن دينه الذي هو الإيمان فسوف يأتي الله بقوم مؤمنين غير منافقين ، الزجاج أذلة على المؤمنين ، أي : جانبهم لين للمؤمنين ليس لأنهم أذلة مهانون ، أعزة على الكافرين ، أي : جانبهم غليظ على الكافرين .
قوله : يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويظاهرونهم ، ويخافون لومهم ، فأعلم الله أن الصحيح الإيمان لا يخاف في نصرة الدين بيده ولسانه لومة لائم .
[ ص: 201 ] .
أخبرنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل الإسماعيلي ، أخبرنا الإمام جدي أبو بكر الإسماعيلي ، حدثنا عبد الله بن صقر السكري ، حدثنا الفضل بن السخيت ، حدثني صالح بن بيان ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود ، "من أراد الجنة لا شك فلا يخف في الله لومة لائم " وقوله : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أي : محبتهم لله ولين جانبهم للمؤمنين ، وشدتهم على الكافرين ، تفضل من الله عليهم ، لا توفيق لهم إلا به .
قوله عز وجل : إنما وليكم الله ورسوله الآية : قال في رواية ابن عباس نزلت في قصة عطية العوفي : عبد الله بن أبي ، حين تبرأ من اليهود ، وقال : أتولى الله ورسوله والذين آمنوا . وعبادة بن الصامت
وقال إن اليهود هجروا من أسلم منهم ولم يجالسوهم ، فقال جابر بن عبد الله : يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا ، وأقسموا أن لا يجالسونا . عبد الله بن سلام :
فنزلت هذه الآية ، فقال : رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء .
والآية عامة في جميع المؤمنين ، فكل مؤمن ولي لكل مؤمن ، لقوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ونحو هذا روي عن أبي جعفر الباقر ، قال : نزلت في الذين آمنوا .
فقيل له : إن ناسا يقولون : إنها نزلت في علي بن أبي طالب .
فقال : علي من الذين آمنوا .
[ ص: 202 ] وقوله : وهم راكعون قال يعني : صلاة التطوع بالليل والنهار ، وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له . ابن عباس :
قوله جل جلاله : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا يعني : يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين ، قال يريد المهاجرين والأنصار ، ابن عباس : فإن حزب الله هم الغالبون معنى الحزب في اللغة : الجماعة ، وحزب الرجل : أصحابه الذين معه على رأيه ، والمؤمنون حزب الله ، والكافرون حزب الشيطان .
قال حزب الله : جند الله . الحسن :
وقال أبو روق : أولياء الله .
ومعنى هم الغالبون : أنهم غلبوا اليهود فقتلوا قريظة ، وأجلوا بني النضير من ديارهم ، وغلبوهم عليها ، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولوا الله ورسوله والذين آمنوا .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا قال كان رجال من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، وكان ناس من المسلمين يودونهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ابن عباس :
ومعنى اتخاذهم الدين هزوا ولعبا : تلاعبهم بالدين وإظهارهم ذلك باللسان واستبطانهم الكفر .
وقوله : والكفار يعني : كفار مكة ، وهو نسق على قوله : من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني اليهود .
ومن نصب : كان نسقا على قوله : لا تتخذوا الذين اتخذوا كأنه قال : ولا تتخذوا الكفار أولياء واتقوا [ ص: 203 ] الله بطاعته إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده ، أي : فلا توالوهم واتركوا موالاتهم .
قوله عز وجل : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا أي : إذا دعوتم الناس إلى الصلاة بالأذان ، والنداء : الدعاء بأرفع الصوت .
قال المفسرون : كان المؤذن إذا أذن للصلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم ، وتغامزوا على طريق السخف والمجون ، استهزاء بالصلاة ، وتجهيلا لأهلها ، وتنفيرا للناس عنها ، وعن الداعي إليها .
ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم لو أجابوا إليها ، وما عليهم في استهزائهم بها .
قوله جل جلاله : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله الآية يقال : نقمت على الرجل ، أنقم .
إذا أنكرت عليه شيئا وبالغت في كراهته ، قال ابن عباس : إن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل ، فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله : ونحن له مسلمون ، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا أشر من دينكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها .
ومعنى هل تنقمون منا هل تكرهون منا وتنكرون علينا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وهذا مما ينكر أو يعاب به .
وقوله : وأن أكثركم فاسقون قال المعنى : هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم . الزجاج :
أي : إنما كرهتم [ ص: 204 ] إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرياسة وكسبكم الأموال ، وهذا معنى قول لفسقكم نقمتم علينا . الحسن :
قوله جل جلاله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لليهود : هل أخبركم بشر مما نقمتم من إيماننا ثوابا وجزاء : من لعنه الله أي : هو من لعنه الله ، وغضب عليه يعني : اليهود وجعل منهم القردة والخنازير يعني بـ القردة : أصحاب السبت ، وبالخنازير : كفار مائدة عيسى .
وقال عن الوالبي إن المسخين من أصحاب السبت ؛ لأن شبابهم مسخوا قردة ، ومشايخهم خنازير . ابن عباس :
وقوله : وعبد الطاغوت قال عبد نسق على لعنه الله لأن المعنى : لعنه الله وعبد الطاغوت ، أي : أطاع الشيطان فيما سول له . الزجاج :
وقرأ وعبد بضم الباء ، الطاغوت بالكسر على تأويل : وجعل منهم عبد الطاغوت ، وأراد بالعبد : العبد ، فضمت الباء للمبالغة ، قال أوس بن حجر : حمزة
أبني لبينى إن أمكمو أمة وإن أباكمو عبد
أراد : عبدا ، فضم الباء .[ ص: 205 ] وليس عبد لفظ جمع ؛ لأنه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، كقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
وقوله : أولئك أي : أهل هذه الصفة شر مكانا : من المؤمنين ، قال لأن مكانهم سقر ، ولا شر في مكان المؤمنين حتى يقال : اليهود شر مكانا منهم ، ولكن هذا مبني على كلام الخصم وكذلك قوله : ابن عباس : قل هل أنبئكم بشر من ذلك لأنهم قالوا : لا نعرف أهل دين شرا منكم ، فقيل لهم : شر منهم من كان بهذه الصفة .
وقوله : وأضل عن سواء السبيل أي : عن قصد الطريق .
قوله عز وجل : وإذا جاءوكم قالوا آمنا الآية : قال الكلبي : إن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : صدقنا أنك رسول الله وهم يسرون بالكفر ، وهو قوله : وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به أي : دخلوا وخرجوا كافرين ، والكفر معهم في كلتي حالتيهم .
والله أعلم بما كانوا يكتمون أي : من نفاقهم وإبطانهم الكفر .
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان قال : يجترئون على الخطأ والتعدي على الناس بما لا يحل . ابن عباس
وأكلهم السحت يعني : الرشى في الحكم ، لبئس ما كانوا يعملون ذم لفعلهم .
قوله : لولا : هلا ينهاهم : عما يرتكبونه من القبيح الربانيون والأحبار : فقهاء اليهود وعلماؤهم ، لبئس ما كانوا يصنعون .
قال ما في القرآن آية أخوف عندي من هذه الآية ، أساء الله الثناء على الفريقين على اليهود وعلى العلماء بترك النكير عليهم فيما صنعوا . الضحاك :
ودلت الآيتان على أن : تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه .
قوله عز وجل : وقالت اليهود يد الله مغلولة قال المفسرون : إن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على [ ص: 206 ] اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية ، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة ، فعند ذلك قالت اليهود : يد الله مغلولة .
أي : مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل ، وهذا قول قتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والكلبي .
وقال : أخبر الله تعالى بعظيم فريتهم فقال : الزجاج وقالت اليهود يد الله مغلولة أي : يده ممسكة عن الإسباغ علينا ، كما قال عز وجل : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي : لا تمسكها عن الإنفاق .
وقوله : غلت أيديهم أي : جعلوا بخلاء وألزموا البخل ، فهم أبخل قوم ، ولا يلقى يهودي أبدا غير لئيم بخيل .
وقال : غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة ، أي : شدت إلى أعناقهم . الحسن
وتأويله : أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في نار جهنم ، ولعنوا بما قالوا أي : عذبوا في الدنيا بالجزية ، وفي الآخرة بالنار .
أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز الفقيه ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد القزويني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، حدثنا حدثنا سهل بن عمار ، حدثنا حفص بن عبد الله ، أبو عصمة نوح بن أبي مريم ، عن عن الكلبي ، أبي صالح ، عن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس "من لعن شيئا لم يكن للعنة أهلا ، رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إياهم " [ ص: 207 ] وقوله : بل يداه مبسوطتان هذا جواب لليهود ، ورد لما افتروه ، وإبطال لما بهتوا فيه ، أجيبوا على قدر كلامهم لما قالوا : يد الله مغلولة يريدون به : تبخيل الله ، فقيل : بل يداه مبسوطتان أي : هو جواد ، ينفق كيف يشاء ، ومعنى التثنية في يداه : المبالغة في الجود والإنعام .
وذهب قوم إلى أن معنى اليد في هذه الآية : النعمة ، فقالوا في قوله : يد الله مغلولة نعمة الله مقبوضة ، وفي قوله : بل يداه مبسوطتان نعمتاه .
أي : نعمة الدنيا والآخرة ، ينفق كيف يشاء يرزق كما يريد ، إن شاء قتر وإن شاء وسع .
وقوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا أي : كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم ، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة أي : بين اليهود والنصارى ، عن الحسن ، وقيل : أراد : طوائف اليهود ، وهو اختيار الزجاج ، قال : جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين ، وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جدهم وشوكتهم . ومجاهد ،
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله قال : كلما أرادوا محاربتك ردهم الله تعالى ، وألزمهم الخوف منك ومن أصحابك . ابن عباس
وهذا قول الحسن .
وقال هذا عام في كل حرب طلبتها اليهود ، فلا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس . قتادة :
وقوله : ويسعون في الأرض فسادا قال : أي يجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كتبهم . الزجاج
[ ص: 208 ]