الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 130 ] قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية: خطاب لعلماء اليهود، وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون، والألف للاستفهام، معناه: التوبيخ والمراد بالبر: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنسيان هاهنا بمعنى: الترك، ومنه قوله تعالى: نسوا الله فنسيهم وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان وترك أنفسهم ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (وأنتم تتلون الكتاب) أي: تقرؤون التوراة، وفيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم، أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، وأصل التلاوة من قولهم: تلاه يتلوه إذا تبعه، والتلاوة: إتباع الحروف بالقراءة، ويقال عقل الرجل يعقل عقلا، إذا كان عاقلا، وعقل الإنسان هو تمييزه الذي به فارق جميع الحيوان، سمي عقلا لأنه يعقله، أي: يمنعه من التورط في الهلكة كما يمنع العقال البعير عن ركوب رأسه.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن الحسن التاجر ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان ، حدثنا صالح بن أحمد الهروي ، حدثنا أبو بجير محمد بن جابر ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا سفيان ، عن خالد بن سلمة ، عن أنس بن مالك ، قال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 131 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم   " . .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم رجع إلى خطاب المسلمين فأمرهم أن يستعينوا على ما يطلبونه من رضاء الله تعالى ونيل جنته بالصبر والصلاة، فقال: واستعينوا بالصبر والصلاة : ومعنى الصبر: حبس النفس على شيء تكرهه، والمراد بالصبر هاهنا: الصبر على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، واحتمال الأذى، وجهاد العدو، وعلى المصائب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (والصلاة) لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية: الصوم، ويقال لشهر رمضان: شهر الصبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (وإنها لكبيرة) قال الحسن والضحاك : ثقيلة، وكل ما ثقل على الإنسان كبر عليه، كقوله تعالى: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، والكناية في (وإنها) تعود على الصلاة لأنها الأغلب والأفضل والأهم، كقوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (إلا على الخاشعين) أي: المطيعين الساكنين إلى الطاعة، الخشوع معناه في اللغة: السكون، قال: وخشعت الأصوات للرحمن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 132 ] وقوله تعالى: الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم هذا من نعت الخاشعين، والعرب تقول لليقين: ظن، وللشك: ظن، لأن في الظن طرفا من اليقين، قال الله تعالى: إني ظننت أني ملاق حسابيه ، وقال: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ، وقال: إن ظنا أن يقيما حدود الله ، كل هذا بمعنى اليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال دريد بن الصمة :


                                                                                                                                                                                                                                      فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أيقنوا.

                                                                                                                                                                                                                                      والملاقاة: اللقاء، بمعنى العيان والاجتماع والمحاذاة والمصير، كقوله تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ، أي: لا يخافون المصير إلينا، وقال: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم أي: مجتمع معكم وصائر إليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : يريد الذين يستيقنون أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى الله تعالى، واللقاء والملاقاة، من حيث ذكر في القرآن، يحمله المفسرون على البعث والصبر إلى الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (وأنهم إليه راجعون) أي: يصدقون بالبعث ويقرون بالنشأة الثانية، وجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية