الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون  لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين  أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين  لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم  

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا قال المفسرون: هؤلاء كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، منهم: وديعة بن ثابت، وخزام بن خالد، وجارية بن عامر، ونبتل بن الحارث، وزيد بن جارية، وعثمان بن حنيف، وجارية بن عامر مجمع بن جارية، وبجاد بن عثمان، والضرار: محاولة الضر، قال الزجاج: وانتصب ضرارا لأنه مفعول له، والمعنى: اتخذوه للضرار.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: ضرارا للمؤمنين، وكفرا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أنهم اتخذوا ذلك المسجد ليكفروا فيه بالطعن على النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، وتفريقا بين المؤمنين يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار  ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الافتراق واختلاف الكلمة، وقوله: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله يعني: أبا عامر الراهب، وكان قد خرج إلى الشام ليأتي بجند من عند قيصر ليحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجدا، فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد، قال الزجاج: والإرصاد: الانتظار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: من قبل يعني: من قبل بناء مسجد الضرار، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى يحلف المنافقون ما أردنا ببنيانه إلا الفعلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن السير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا: إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية.

                                                                                                                                                                                                                                      والله يشهد إنهم لكاذبون فيما قالوا وحلفوا، ولما فرغوا من بناء المسجد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحب أن تأتينا وتصلي لنا فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقميصه ليأتيهم، فأنزل الله تعالى: لا تقم فيه أبدا قال ابن عباس: لا تصل فيه أبدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين أي المسجدين أحق بالقيام فيه، فقال: لمسجد أسس على التقوى بني على الطاعة وبناه المتقون، أحق أن تقوم فيه وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو مسجد قباء، وهو قول قتادة، وسعيد بن [ ص: 525 ] المسيب، وقوله: فيه رجال يعني من الأنصار، يحبون أن يتطهروا قال جميع المفسرين: يعني: غسل الأدبار بالماء.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو منصور المنصوري، أنا علي بن عمر الحافظ، أنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة، نا محمد بن مسعدة، نا محمد بن شعيب، أخبرني عتبة ابن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع أنه حدثه قال: حدثني أبو أيوب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا: لا غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء، وقال: هو ذاك فعليكموه".  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: والله يحب المطهرين أي: من الشرك والأنجاس والأقذار والنفاق، وقوله: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان البنيان: مصدر يراد به المبنى هاهنا، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وقرأ نافع: أسس بضم الألف بنيانه رفعا، وهذا في المعنى الأول لأنه إذا أسس بنيانه، فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه خير؟ أم المؤسس بنيانه غير متق؟ وهو قوله: أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار وشفا الشيء حرفه، والجرف ما يجرفه السيل من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا، وهار مقلوب من هاير، يقال: هار الجرف يهور.

                                                                                                                                                                                                                                      إذا انشق من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه فهو هاير، ثم يقلب فيقال: هار، قال الزجاج: المعنى: أن من أسس بنيانه على التقوى خير ممن أسس بنيانه على الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      يعني: أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارا كبناء على حرف جهنم يتهور بأهله فيها، وهو قوله: فانهار به أي: بالباني في نار جهنم قال ابن عباس: يريد: صيرهم النفاق إلى النار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم قال الضحاك: يقول: لا يزالون في شك منه إلى الموت.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: أنهم لا يزالون شاكين مترددين في الحيرة يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين إلى الممات، وهو قوله: إلا أن تقطع قلوبهم أي: حتى تقطع [ ص: 526 ] وتفتت قلوبهم بالموت، وقرأ حمزة: تقطع بفتح التاء بمعنى تتقطع، وهذا يدل على أنهم يموتون على النفاق، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان وأخذوا به من الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية