الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم رجعوا إلى يعقوب، وقالوا ما لقنهم كبيرهم فقال يعقوب: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم  وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم  قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين  قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون  يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون  

                                                                                                                                                                                                                                      بل سولت لكم أنفسكم أمرا قال ابن الأنباري: يعني خروجهم بأخيهم بنيامين إلى مصر رجاء منفعة فعاد من ذلك شر وضرر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره: معنى قوله هاهنا: سولت لكم أنفسكم أمرا خيلت لكم أنفسكم أنه سرق، وما سرق.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل، أنا محمد بن عبد الله الضبي، أنا أبو بكر بن أبي نصر الداربردي، نا محمد بن إبراهيم بن سعيد، نا سليمان بن منصور بن عمار، حدثني أبي، نا يوسف بن صباح الفزاري، عن عبد الله بن يونس بن أبي فروة، قال: لما كان من الإخوة ما كان كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بالبلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت [ ص: 627 ] عيناي، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: عسى الله أن يأتيني بهم جميعا يعني: يوسف، وبنيامين، والذي قال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، إنه هو العليم بشدة حزني الحكيم فيما حكم علي بهذا الحزن وعظم المصيبة بابن بعد ابن، قوله: وتولى عنهم قال ابن عباس: أعرض عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أنه لما بلغه خبر حبس بنيامين تنامى حزنه، وبلغ الجهد، وهاج ذلك وجده بيوسف لأنه كان يتسلى به، فعند ذلك أعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرني أبو عمرو محمد بن عبد العزيز المروزي في كتابه، أنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا محمد بن عبيد، عن سفيان بن زياد العصفري، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم: إنا لله وإنا إليه راجعون  ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفى على يوسف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وابيضت عيناه أي: انقلبت إلى حال البياض، قال مقاتل: لم يبصر بها ست سنين حتى كشفه الله بقميص يوسف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: من الحزن قال ابن عباس: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه والحزن لما كان سببا للبكاء سمي البكاء حزنا.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو منصور بن أبي نصر المذكر، أنا أبو سعيد بن نصير الصوفي، أنا محمد بن أيوب، أنا أبو غسان، نا جرير، عن ليث، عن ثابت البناني قال: دخل جبريل على يوسف فقال: أيها الملك الطيب ريحه الطاهر ثيابه الكريم على ربه، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد عند الله.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا أبو يحيى الرازي، نا سهل بن عثمان، نا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة وما جفت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فهو كظيم الكظيم هاهنا بمعنى: الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ولا يشكوه، قال قتادة: فلا يقول بأسا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس: مغموم مكروب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: محزون.

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف يقال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 628 ] ما زلت أفعل كذا وما فتئت أفعله أفتؤ فتأ.

                                                                                                                                                                                                                                      وحرف النفي هاهنا مضمر على معنى: ما تفتؤ ولا تفتؤ، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: لا تزال تذكر يوسف حتى تكون حرضا، وقال الفراء: يقال رجل حرض وحارض.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الفاسد في جسمه وعقله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي: الحرض الهالك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: حتى تكون كالشيخ الفاني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الضحاك: كالشن البالي.

                                                                                                                                                                                                                                      أو تكون من الهالكين قال قتادة: من الميتين.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى أنهم قالوا لأبيهم: لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بالغم، فلما رأى غلظتهم وعنفهم به قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله لا إليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم الأصفهاني، نا سليمان بن أحمد الطبراني، نا محمد بن أحمد بن محمد الباهلي، نا وهب بن بقية، نا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن حصين بن عمر الأحمسي، عن أبي الزبير، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري؟ فقال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب، ثم قال يعقوب: أي رب أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد علي ريحانتي أشمه شمة قبل الموت ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرأ عليك السلام  ويقول: أبشر وليفرح قلبك فوعزتي لو كان ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين، وتدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة فأتاكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها، فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى: ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى: من كان صائما فليفطر مع يعقوب".

                                                                                                                                                                                                                                      رواه الحاكم في صحيحه، عن أبي الوليد الفقيه، عن هشام بن بشر، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن عبد الملك [ ص: 629 ] وقال حبيب بن أبي ثابت: إن يعقوب كبر وضعف حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة، فقال له بعض جيرانه: قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.

                                                                                                                                                                                                                                      فأوحى الله إليه: يا يعقوب، تشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: غفرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى يعقوب أتدري لما عاقبت وحبست يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: لأنك شويت وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: إن سبب ابتلاء يعقوب أنه كانت له بقرة ولها عجل فذبح عجلها بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها يعقوب فأخذه الله به وابتلاه بأعز ولده، والبث أشد الحزن وهو ما يبديه الإنسان ويظهره لأنه إذا اشتد لم يصبر على كتمانه حتى يبثه، من قولهم: بث الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      إذا نشره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأعلم من الله ما لا تعلمون أنتم، قال الكلبي: وذلك أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف فيما قبضت من الأرواح؟ قال: لا يا نبي الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس: وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عطاء: وأعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السدي: لما أخبر يعقوب بنوه بسيرة ملك مصر طمع أن يكون يوسف فلذلك قال لبنيه اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيد: تحسست الخبر: بحثته وطلبته لأجده.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس: ابحثوا عن يوسف.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تيأسوا من روح الله قال الأصمعي: الروح الاستراحة من غم القلب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عمرو: الروح الفرح.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: يريد من رحمة الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو قول قتادة، والضحاك، وقال أبو زيد: فرج الله.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: لا تيئسوا من الروح الذي يأتي به الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال ابن عباس: يريد: أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد، ويشكره ويحمده في الرخاء،  وأن الكافر ليس كذلك، قال المفسرون: لما قال أبوهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف فخرجوا إلى مصر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية