ثم رجعوا إلى يعقوب، وقالوا ما لقنهم كبيرهم فقال يعقوب: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
بل سولت لكم أنفسكم أمرا قال يعني خروجهم بأخيهم ابن الأنباري: بنيامين إلى مصر رجاء منفعة فعاد من ذلك شر وضرر.
وقال غيره: معنى قوله هاهنا: سولت لكم أنفسكم أمرا خيلت لكم أنفسكم أنه سرق، وما سرق.
أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل، أنا محمد بن عبد الله الضبي، أنا أبو بكر بن أبي نصر الداربردي، نا محمد بن إبراهيم بن سعيد، نا سليمان بن منصور بن عمار، حدثني أبي، نا يوسف بن صباح الفزاري، عن عبد الله بن يونس بن أبي فروة، قال: لما كان من الإخوة ما كان كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بالبلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت [ ص: 627 ] عيناي، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره.
وقوله: عسى الله أن يأتيني بهم جميعا يعني: يوسف، وبنيامين، والذي قال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، إنه هو العليم بشدة حزني الحكيم فيما حكم علي بهذا الحزن وعظم المصيبة بابن بعد ابن، قوله: وتولى عنهم قال أعرض عنهم. ابن عباس:
وذلك أنه لما بلغه خبر حبس بنيامين تنامى حزنه، وبلغ الجهد، وهاج ذلك وجده بيوسف لأنه كان يتسلى به، فعند ذلك أعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف قال يا طول حزني على يوسف. ابن عباس:
أخبرني أبو عمرو محمد بن عبد العزيز المروزي في كتابه، أنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا محمد بن عبيد، عن سفيان بن زياد العصفري، قال: سمعت يقول: سعيد بن جبير، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفى على يوسف. لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم:
وقوله: وابيضت عيناه أي: انقلبت إلى حال البياض، قال لم يبصر بها ست سنين حتى كشفه الله بقميص مقاتل: يوسف.
وقوله: من الحزن قال من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه والحزن لما كان سببا للبكاء سمي البكاء حزنا. ابن عباس:
أخبرنا أبو منصور بن أبي نصر المذكر، أنا أبو سعيد بن نصير الصوفي، أنا أنا محمد بن أيوب، أبو غسان، نا جرير، عن ليث، عن قال: دخل ثابت البناني جبريل على يوسف فقال: أيها الملك الطيب ريحه الطاهر ثيابه الكريم على ربه، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم.
قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه.
قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى.
قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد عند الله.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا أبو يحيى الرازي، نا نا سهل بن عثمان، ابن إدريس، عن هشام، عن قال: ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة وما جفت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره. الحسن
وقوله: فهو كظيم الكظيم هاهنا بمعنى: الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ولا يشكوه، قال قتادة: فلا يقول بأسا.
وقال مغموم مكروب. ابن عباس:
وقال محزون. الزجاج:
قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف يقال:
[ ص: 628 ] ما زلت أفعل كذا وما فتئت أفعله أفتؤ فتأ.
وحرف النفي هاهنا مضمر على معنى: ما تفتؤ ولا تفتؤ، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، لا تزال تذكر وقتادة: يوسف حتى تكون حرضا، وقال يقال رجل حرض وحارض. الفراء:
وهو الفاسد في جسمه وعقله.
وقال الحرض الهالك. الأصمعي:
قال حتى تكون كالشيخ الفاني. ابن عباس:
وقال كالشن البالي. الضحاك:
أو تكون من الهالكين قال من الميتين. قتادة:
والمعنى أنهم قالوا لأبيهم: لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بالغم، فلما رأى غلظتهم وعنفهم به قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله لا إليكم.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم الأصفهاني، نا سليمان بن أحمد الطبراني، نا محمد بن أحمد بن محمد الباهلي، نا نا وهب بن بقية، عن يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن حصين بن عمر الأحمسي، أبي الزبير، عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنس بن مالك، ويقول: أبشر وليفرح قلبك فوعزتي لو كان ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين، وتدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة فأتاكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها، فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى: ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى: من كان صائما فليفطر مع يعقوب". كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري؟ فقال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب، ثم قال يعقوب: أي رب أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد علي ريحانتي أشمه شمة قبل الموت ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرأ عليك السلام
رواه الحاكم في صحيحه، عن أبي الوليد الفقيه، عن هشام بن بشر، عن عن أبي بكر بن أبي شيبة، يحيى بن عبد الملك [ ص: 629 ] وقال إن حبيب بن أبي ثابت: يعقوب كبر وضعف حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة، فقال له بعض جيرانه: قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.
فأوحى الله إليه: يا يعقوب، تشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
قال: غفرت لك.
فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله .
وقال أوحى الله إلى وهب بن منبه: يعقوب أتدري لما عاقبت وحبست يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا.
قال: لأنك شويت وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه.
ويقال: إن سبب ابتلاء يعقوب أنه كانت له بقرة ولها عجل فذبح عجلها بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها يعقوب فأخذه الله به وابتلاه بأعز ولده، والبث أشد الحزن وهو ما يبديه الإنسان ويظهره لأنه إذا اشتد لم يصبر على كتمانه حتى يبثه، من قولهم: بث الحديث.
إذا نشره.
وقوله: وأعلم من الله ما لا تعلمون أنتم، قال وذلك أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف فيما قبضت من الأرواح؟ قال: لا يا نبي الله. الكلبي:
وقال وأعلم أن رؤيا ابن عباس: يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له.
وقال وأعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون. عطاء:
قال لما أخبر يعقوب بنوه بسيرة ملك السدي: مصر طمع أن يكون يوسف فلذلك قال لبنيه اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه .
قال أبو عبيد: تحسست الخبر: بحثته وطلبته لأجده.
وقال ابحثوا عن يوسف. ابن عباس:
ولا تيأسوا من روح الله قال الروح الاستراحة من غم القلب. الأصمعي:
وقال أبو عمرو: الروح الفرح.
قال يريد من رحمة الله. ابن عباس:
وهو قول قتادة، وقال والضحاك، فرج الله. أبو زيد:
والمعنى: لا تيئسوا من الروح الذي يأتي به الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال يريد: أن ابن عباس: وأن الكافر ليس كذلك، قال المفسرون: لما قال أبوهم اذهبوا فتحسسوا من المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد، ويشكره ويحمده في الرخاء، يوسف فخرجوا إلى مصر .