إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات يعني بالصفن إذا رفعت الدابة إحدى يديها فتقوم على ثلاث قوائم ، ثم قال : الجياد يعني السراع ، مثل قوله : فاذكروا اسم الله عليها صواف ، معلقة قائمة على ثلاث ، وذلك أن سليمان ، عليه السلام ، صلى الأولى ، ثم جلس على كرسيه لتعرض عليه الخيل وعلى ألف فرس كان ورثها من أبيه داود ، عليه السلام ، وكان أصابها من العمالقة ، فعرض عليه منها تسع مائة ، فغابت الشمس ولم يصل العصر.
فذلك قوله : فقال إني أحببت حب الخير يعني المال ، وهو الخيل الذي عرض عليه عن ذكر ربي يعني صلاة العصر ، كقوله : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، يعني الصلوات الخمس ، حتى توارت بالحجاب والحجاب جبل دون "ق" بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه.
ثم قال : ردوها علي يعني كروها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق يقول : فجعل يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقطعها ، وبقي منها مائة فرس ، فما كان في أيدي الناس اليوم فهي من نسل تلك المائة.
قوله : ولقد فتنا سليمان يعني بعدما ملك عشرين سنة ، ثم ملك أيضا بعد الفتنة عشرين سنة ، فذلك أربعين يقول : لقد ابتلينا سليمان أربعين يوما وألقينا على كرسيه يعني سريره جسدا يعني رجلا من الجن يقال له : صخر بن عفير بن عمرو بن [ ص: 119 ] شرحبيل ، ويقال : إن إبليس جده ، ويقال أيضا اسمه أسيد ثم أناب يقول : ثم رجع بعد أربعين يوما إلى ملكه وسلطانه ، وذلك أن سليمان غزا العمالقة ، فسبى من نسائهم ، وكانت فيهم ابنة ملكهم ، فاتخذها لنفسه فاشتاقت إلى أبيها ، وكان بها من الحسن والجمال ما لا يوصف فحزنت وهزلت وتغيرت ، فأنكرها سليمان أن يتخذ لها شبه أبيها ، فاتخذ لها صنما على شبه أبيها ، فكانت تنظر إليه في كل ساعة ، فذهب عنها ما كانت تجد ، فكانت تكنس ذلك البيت وترشه ، حتى زين لها الشيطان فعبدت ذلك الصنم بغير علم سليمان لذلك ، وكانت لسليمان جارية من أوثق أهله عنده قد كان وكلها بخاتمه ، وكان سليمان لا يدخل الخلاء ، حتى يدفع خاتمه إلى تلك الجارية ، وإذا أتى بعض نسائه فعل ذلك ، وأن سليمان أراد ذات يوم أن يدخل الخلاء ، فجاء صخر فألقاه في البحر وجلس صخر في ملك سليمان ، وذهب عن سليمان البهاء ، والنور فخرج يدور في قرى بني إسرائيل ، فكلما أتى سليمان قوما رجموه وطردوه تعظيما لسليمان ، عليه السلام ، وكان سليمان إذا لبس خاتمه سجد له كل شيء يراه من الجن والشياطين وتظله الطير ، وكان خرج في ملكه في ذي القعدة ، وعشر ذي الحجة ، ورجع إلى ملكه يوم النحر.
وذلك قوله : ولقد فتنا سليمان أربعين يوما ثم أناب يعني رجع إلى ملكه ، وذلك أنه أتى ساحل البحر ، فوجد صيادا يصيد السمك فتصدق منه ، فتصدق عليه بسمكة ، فشق بطنها ، فوجد الخاتم فلبسه ، فرجع إليه البهاء والنور ، وسجد له كل من رآه وهرب صخر ، فدخل البحر ، فبعث في طلبه الشياطين ، فلم يقدروا عليه حتى أشارت الشياطين على سليمان أن يتخذ على ساحل البحر ، كهيئة العين من الخمر ، وجعلت الشياطين تشرب من ذلك الخمر ويلهون ، فسمع صخر جلبتهم ، فخرج إليهم ، فقال لهم : ما هذا اللهو والطرب ، قالوا : مات سليمان بن داود وقد استرحنا منه ، فنحن نشرب ونلهو ، فقال لهم : وأنا أيضا أشرب وألهو معكم ، فلما شرب الخمر فسكر ، أخذوه وأوثقوه وأتي به سليمان ، فحفر له حجرا ، فأدخل فيه وأطبق عليه بحجر آخر ، وأذاب الرصاص ، فصب بين الحجرين وقذف به في البحر ، فهو فيه إلى اليوم.
فلما رجع سليمان إلى ملكه وسلطانه قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فوهب الله عز وجل له من الملك ما لم يكن له ، ولا لأبيه داود ، عليهما السلام ، فزاده الرياح والشياطين بعد ذلك.
[ ص: 120 ] فذلك قوله تعالى : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب يقول : مطيعة لسليمان حيث أراد أن تتوجه توجهت له "و" سخرنا له والشياطين كل بناء وغواص كانوا يبنون له ما يشاء من البنيان ، وهو محاريب وتماثيل ويغوصون له في البحر ، فيستخرجون له اللؤلؤ ، وكان سليمان أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
قال : وآخرين من مردة الشياطين ، إضمار مقرنين في الأصفاد يعني موثقين في الحديد هذا عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين ، فحل عنه أو أمسك يعني وأحبس في العمل والوثاق من شئت منهم بغير حساب يعني بلا تبعة عليك في الآخرة ، فيمن تمن عليه فترسله ، وفيمن تحبسه في العمل.
ثم أخبر بمنزلة سليمان في الآخرة ، فقال تعالى : وإن له عندنا لزلفى يعني لقربة وحسن مآب يعني وحسن مرجع ، وكان لسليمان ثلاث مائة امرأة حرة وسبع مائة سرية ، وكان لداود ، عليه السلام ، مائة امرأة حرة وتسع مائة سرية ، وكانت الأنبياء كلهم في الشدة غير داود وسليمان ، عليهما السلام.