الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين  فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون  فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون  ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب  الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم  استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين  فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون  فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون  فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين  ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون  ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون  

[ ص: 61 ] ومنهم ، يعني من المنافقين، من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنصلن رحمي، ولنكونن من الصالحين ، يعني من المؤمنين بتوحيد الله؛ لأن المنافقين لا يخلصون بتوحيد الله عز وجل فأتاه الله برزقه، وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلا من المنافقين خطأ، وكان حميما لحاطب ، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم دينه إلى ثعلبة بن حاطب ، فبخل ومنع حق الله، وكان المقتول قرابة ابن ثعلبة بن حاطب .

يقول الله: فلما آتاهم من فضله ، يعني أعطاهم من فضله، بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، يعني إلى يوم القيامة، بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، لقوله: لئن آتانا الله، يعني أعطاني الله، لأصدقن ولأفعلن، ثم لم يفعل.

ثم ذكر أصحاب العقبة، فقال: ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ، يعني الذي أجمعوا عليه من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله علام الغيوب . ثم نعت المنافقين، فقال: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات وذلك [ ص: 62 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة وهو يريد غزاة تبوك، وهى غزاة العسرة، فجاء عبد الرحمن بن عوف الزهري بأربعة آلاف درهم، كل درهم مثقال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثرت يا عبد الرحمن بن عوف ، هل تركت لأهلك شيئا؟ "قال: يا رسول الله، ما لي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضتها ربي، وأما الأربعة آلاف الأخرى فأمسكتها لنفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت"، فبارك الله في مال عبد الرحمن ، حتى إنه يوم مات بلغ ثمن ماله لامرأتيه ثمانين ومائة ألف، لكل امرأة تسعون ألفا.

وجاء عاصم بن عدي الأنصاري ، من بني عمرو بن عوف بسبعين وسقا من تمر، وهو حمل بعير، فنثره في الصدقة، واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قلته، وجاء أبو عقيل بن قيس الأنصاري ، من بني عمرو، بصاع فنثره في الصدقة، فقال: يا نبي الله، بت ليلتي أعمل في النخل أجر بالجرين على صاعين، فصاع أقرضته ربي، وصاع تركته لأهلي، فأحببت أن يكون لي نصيب في الصدقة، ونفر من المنافقين جلوس، فمن جاء بشيء كثير، قالوا: مراء، ومن جاء بقليل، قالوا: كان هذا أفقر إلى ماله، وقالوا لعبد الرحمن وعاصم: ما أنفقتم إلا رياء وسمعة وقالوا لأبي عقيل: لقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبى عقيل.

فسخروا وضحكوا منهم، فأنزل الله عز وجل: والذين لا يجدون إلا جهدهم ، يعني أبا عقيل ،
فيسخرون منهم ، يعني من المؤمنين، سخر الله منهم ، يعني سخر الله من المنافقين في الآخرة، ولهم عذاب أليم ، يعني وجيع، نظيرها: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم يعني سخر الله من المنافقين.

استغفر لهم ، يعني المنافقين، أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين [ ص: 63 ] ، فقال عمر بن الخطاب: لا تستغفر لهم بعد ما نهاك الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عمر ، أفلا أستغفر لهم إحدى وسبعين مرة".

فأنزل الله عز وجل سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين من شدة غضبه عليهم،
فصارت الآية التي في (براءة) منسوخة، نسختها التي في المنافقين: أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم .

فرح المخلفون بمقعدهم عن غزاة تبوك، خلاف رسول الله وهم بضعة وثمانون رجلا، منهم من اعتل بالعسرة، وبغير ذلك، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر مع محمد صلى الله عليه وسلم إلى غزاة تبوك في سبعة نفر، أبو لبابة وأصحابه، قالوا بأن الحر شديد والسفر بعيد، قل يا محمد: نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ، في قراءة ابن مسعود: لو كانوا يعلمون.

فليضحكوا في الدنيا قليلا ، يعني بالقليل الاستهزاء، فإن ضحكهم ينقطع، وليبكوا كثيرا في الآخرة في النار ندامة، والكثير الذي لا ينقطع، جزاء بما كانوا يكسبون . فإن رجعك الله من غزاة تبوك إلى المدينة، إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا في غزاة، ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، يعني من تخلف من المنافقين، وهى طائفة وليس كل من تخلف عن غزاة تبوك منافقا، فاقعدوا عن الغزو مع الخالفين ، منهم: عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير.

وذلك أن عبد الله بن أبي رأس المنافقين توفي، فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنشدك [ ص: 64 ] بالله ألا تشمت بي الأعداء، فطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أبيه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فنزلت فيه: ولا تصل على أحد منهم ، يعني من المنافقين، مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ، يعني بتوحيد الله، "و" كفروا بـ ورسوله بأنه ليس برسول، وماتوا وهم فاسقون ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، وأمر أصحابه فصلوا عليه.

ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق ، يقول: وتذهب أنفسهم كفارا، يعني يموتون على الكفر، فذلك قوله: وهم كافرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية