الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن يونس لمن المرسلين  إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين  فالتقمه الحوت وهو مليم  فلولا أنه كان من المسبحين  للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين  وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين  

                                                                                                                                                                                                                                      وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق أي : فر من قومه إلى الفلك المشحون يعني : الموقر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال يحيى : بلغنا - والله أعلم - أن يونس دعا قومه إلى الله ، فلما طال ذلك عليه وأبوا أوحى الله إليه أن العذاب يأتيهم يوم كذا وكذا ، فلما دنا الوقت تنحى عنهم ، فلما كان قبل الوقت بيوم جاء فجعل يطوف بالمدينة وهو يبكي ويقول : غدا يأتيكم العذاب! فسمعه رجل منهم ، فانطلق إلى الملك [ ص: 71 ] فأخبره أن سمع يونس يبكي . ويقول : يأتيكم العذاب غدا ، فلما سمع ذلك الملك دعا قومه ، فأخبرهم بذلك ، وقال : إن كان هذا حقا فسيأتيكم العذاب غدا ، فاجتمعوا حتى ننظر في أمرنا ، فاجتمعوا فخرجوا من المدينة من الغد ، فنظروا فإذا بظلمة وريح شديدة قد أقبلت نحوهم ، فعلموا أنه الحق ، ففرقوا بين الصبيان وأمهاتهم وبين البهائم وبين أمهاتها ، ولبسوا الشعر وجعلوا الرماد والتراب على رءوسهم تواضعا لله ، وتضرعوا إليه وبكوا وآمنوا ، فصرف الله عنهم العذاب ، واشترط بعضهم على بعض ألا يكذب أحدهم كذبة إلا قطعوا لسانه ، فجاء يونس من الغد فنظر فإذا المدينة على حالها ، وإذا الناس داخلون وخارجون; فقال : أمرني ربي أن أخبر قومي أن العذاب يأتيهم غدا فلم يأتهم ، فكيف ألقاهم ؟ فانطلق حتى أتى ساحل البحر; فإذا بسفينة في البحر; فأشار إليهم فأتوه فحملوه ولا يعرفونه ، فانطلق إلى ناحية من السفينة فتقنع ورقد ، فما مضوا إلا قليلا حتى جاءتهم ريح كادت السفينة تغرق ، فاجتمع أهل السفينة ودعوا الله ثم قالوا : أيقظوا الرجل يدعو معنا . ففعلوا فدفع الله عنهم تلك الريح ، ثم انطلق إلى مكانه فرقد ، فجاءت ريح كادت السفينة تغرق ، فأيقظوه ودعوا الله فارتفعت الريح ، فتفكر العبد الصالح فقال : هذا من خطيئتي! أو كما قال ، فقال لأهل السفينة (شدوني ) وثاقا وألقوني في البحر ، فقالوا : ما كنا لنفعل وحالك حالك ، ولكنا نقترع فمن أصابته القرعة ألقيناه في البحر ، فاقترعوا فأصابته القرعة ، فقال : قد أخبرتكم . فقالوا : ما كنا لنفعل ولكن اقترعوا ، فاقترعوا الثانية فأصابته القرعة ، ثم اقترعوا الثالثة; فأصابته القرعة وهو قول الله : فساهم فكان من المدحضين [يريد : المسهومين] أي : وقع السهم عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 72 ] قال محمد : المعنى : فقورع فكان من المقروعين وهو الذي أراد يحيى ، وأصل الكلمة من قولهم : أدحض الله حجته فدحضت; أي : أزالها فزالت .

                                                                                                                                                                                                                                      قال يحيى : فانطلق إلى صدر السفينة ليلقي بنفسه في البحر; فإذا هو بحوت فاتح فاه ، فانطلق إلى ذنب السفينة; فإذا هو بالحوت فاتحا فاه ثم جاء إلى جانب السفينة; فإذا هو بالحوت فاتحا فاه ، ثم جاء إلى الجانب الآخر ، ; فإذا هو بالحوت فاتحا فاه ، فلما رأى ذلك ألقى نفسه ، فالتقمه الحوت ، وهو قول الله : فالتقمه الحوت وهو مليم [يريد : أن الله كان له لائما حيث أبق] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد : يقال : قد ألام الرجل إلامة فهو مليم ، إذا أتى ما يجب أن يلام عليه . قال يحيى : فأوحى الله إلى الحوت ألا يأكل عليه ولا يشرب ، وقال : إني لم أجعله لك رزقا ، ولكني جعلت بطنك له سجنا . فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة فنادى في الظلمات كما قال الله : أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين والظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، قال الله : فاستجبنا له الآية ، وقال : فلولا أنه كان من المسبحين الآية [يريد : في بطن الحوت] قال الحسن : أما والله [ ص: 73 ] ما هو التسبيح قبل ذلك ، ولكنه لما التقمه الحوت جعل يقول : سبحان الله ، سبحان الله . . . ويدعو الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال يحيى : فأوحى الله إلى الحوت أن يلقيه إلى البر ، وهو قوله : فنبذناه بالعراء وهو سقيم [يريد على ساحل قرية من قرى الموصل يقال لها : بلد بالعراء عريان قد بلي لحمه ، وكل شيء منه ، مثل الصبي المولود وهو سقيم يريد الصبي المولود] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد : العراء ممدود وهو المكان الخالي ، وإنما قيل له : عراء; لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه ، وكأنه من : عري الشيء ، والعرى - مقصور - : الناحية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال يحيى : فأصابته حرارة الشمس; فأنبت الله عليه شجرة من يقطين - وهو القرع [تظله بورقها ، ويشرب من لبنها] فأظلته ، فنام فاستيقظ [وقام من نومه] وقد يبست فحزن عليها ، فأوحى الله إليه ، أحزنت على هذه الشجرة وأردت أن أهلك مائة ألف من خلقي [كما قال الله - عز وجل - : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون يريد أكثر من مائة ألف ، الله أعلم الأكثرين منهم] أو يزيدون أي : بل يزيدون .

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد : قيل : المعنى : ويزيدون ، الألف صلة زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 74 ] قال يحيى : وبلغنا أنهم كانوا عشرين ومائة ألف ، فعلم عند ذلك أنه قد ابتلي فانطلق ، فإذا هو بذود من غنم فقال للراعي : اسقني لبنا . فقال : ليس ها هنا شاة لها لبن ، فأخذ شاة منها ، فمسح بيده على ضرعها فدرت فشرب من لبنها; فقال له الراعي : من أنت يا عبد الله ؟ ! قال : أنا يونس; فانطلق الراعي إلى قومه فبشرهم به فأخذوه وجاءوا معه إلى موضع الغنم ، فلم يجدوا يونس; فقالوا : إنا شرطنا ألا يكذب أحد إلا قطعنا لسانه; فتكلمت الشاة بإذن الله; فقالت : قد شرب من لبني . وقالت شجرة - كان استظل تحتها - : قد استظل بظلي . فطلبوه فأصابوه فرجع إليهم ، فكان فيهم حتى قبضه الله ، وكانوا بمدينة يقال لها : نينوى ، من أرض الموصل ، وهي على دجلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال الحسن : فأعاد الله له الرسالة ، فآمنوا [يريد : صدقوا] كلهم قال الله : فمتعناهم إلى حين يعني : إلى آجالهم ، ولم يهلكهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية