فصل .
قال الرافضي : [1] : " الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة [2] فيجب أن [3] يكون خليفة له بعد [4] موته ، وليس غير علي إجماعا ، ولأنه [5] لم يعزله عن المدينة فيكون خليفة ( له ) [6] بعد موته فيها ، وإذا كان خليفة فيها [7] كان خليفة في غيرها إجماعا " .
والجواب : أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة التي هي من جنس بيت [8] العنكبوت ، والجواب عنها من وجوه :
أحدها : أن نقول على أحد القولين : إنه استخلف أبا بكر بعد موته ، كما تقدم ، وإذا قالت الرافضة : بل استخلف عليا ، قيل : الراوندية من جنسكم قالوا : استخلف العباس ، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحد بعد موته ، إنما تدل [ ص: 342 ] على استخلاف أبي بكر ليس فيها شيء يدل على استخلاف علي ، ولا العباس ، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحدا منهما ، فيقال حينئذ : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أحدا فلم يستخلف إلا أبا بكر ، وإن لم يستخلف أحدا فلا هذا ، ولا هذا .
فعلى تقدير كون الاستخلاف واجبا على الرسول لم يستخلف إلا أبا بكر ، فإن جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير أبي بكر ، وإنما يدل ما يدل منها على استخلاف أبي بكر ، وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة .
الوجه الثاني : أن نقول : أنتم لا تقولون بالقياس ، وهذا احتجاج بالقياس حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب ، وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول : الفرق بينهما ما نبهنا عليه في استخلاف عمر في حياته ، وتوقفه في الاستخلاف بعد موته ; لأن الرسول في حياته شاهد على الأمة [9] مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه ، وبعد موته انقطع عنه التكليف .
كما قال المسيح : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) ( سورة المائدة : 117 ) الآية ، لم يقل : كان خليفتي الشهيد عليهم ، وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت .
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " فأقول كما قال [ ص: 343 ] العبد الصالح: ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) ( سورة المائدة : 117 ) [10] .
وقد قال تعالى: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) ( سورة آل عمران : 144 ) .
فالرسول بموته انقطع عنه التكليف ، وهو لو استخلف خليفة في حياته لم يجب أن يكون معصوما ، بل كان يولي الرجل ولاية ، ثم يتبين كذبه فيعزله ، كما ولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وهو لو استخلف رجلا لم يجب أن يكون معصوما ، وليس هو بعد موته شهيدا عليه ، ولا مكلفا برده عما يفعله ، بخلاف الاستخلاف في الحياة .
الوجه الثالث : أن يقال الاستخلاف في الحياة واجب على كل ولي أمر ، فإن كل ولي أمر - رسولا كان أو إماما - عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور ، فلا بد له من إقامة الأمر : إما بنفسه ، وإما بنائبه . فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه ، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه فيولي على من غاب عنه من رعيته من يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويأخذ منهم الحقوق ، ويقيم فيهم [11] [ ص: 344 ] الحدود ، ويعدل بينهم في الأحكام ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه ، فيولي [12] الأمراء على السرايا يصلون بهم [13] ، ويجاهدون بهم ، ويسوسونهم ، ويؤمر أمراء على [14] الأمصار ، كما أمر عتاب بن أسيد على مكة ، وأمر خالد بن سعيد بن العاص ، وأبان بن سعيد بن العاص ، وأبا سفيان بن حرب ، ومعاذا ، وأبا موسى على قرى عرينة ، وعلى نجران ، وعلى اليمن ، وكما كان يستعمل عمالا على الصدقة فيقبضونها ممن تجب عليه ، ويعطونها لمن تحل له ، كما استعمل غير واحد .
وكان يستخلف في إقامة الحدود ، كما قال لأنيس : " يا أنيس اغد على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " [15] فغدا عليها فاعترفت فرجمها .
وكان يستخلف على الحج ، كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك ، وكان علي من جملة رعية أبي بكر يصلي خلفه ، ويأتمر بأمره ، وذلك [16] بعد غزوة تبوك .
وكما استخلف على المدينة مرات كثيرة فإنه كان كلما خرج في غزاة [ ص: 345 ] استخلف ، ولما حج واعتمر استخلف فاستخلف في غزوة بدر ، وبني المصطلق ، وغزوة خيبر ، وغزوة الفتح ، واستخلف في غزوة الحديبية ، وفي غزوة القضاء ، وحجة الوداع ، وغير ذلك .
وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجبا على متولي الأمر ، وإن لم يكن نبيا مع أنه لا يجب عليه الاستخلاف بعد * موته لكون الاستخلاف في الحياة أمرا ضروريا لا يؤدى الواجب إلا به بخلاف الاستخلاف بعد * [17] الموت فإنه قد بلغ الأمة ، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته فيمكنهم أن يعينوا من يؤمرونه عليهم ، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معين - علم أنه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت .
الرابع : أن الاستخلاف في الحياة واجب في أصناف الولايات ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على من غاب عنهم [18] من يقيم فيهم الواجب ، ويستخلف في الحج ، وفي قبض الصدقات ، وحفظ مال الفيء ، وفي إقامة الحدود ، وفي الغزو ، وغير ذلك .
ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء ، بل ولا يمكن ، فإنه لا يمكن أن يعين للأمة بعد موته من يتولى كل أمر جزئي ، فإنهم يحتاجون إلى واحد بعد واحد ، وتعيين ذلك متعذر ، ولأنه لو عين واحدا فقد يختلف حاله ويجب عزله ، فقد كان يولي في حياته من يشكي [19] إليه فيعزله ، كما عزل الوليد بن عقبة ، وعزل سعد [20] بن عبادة [ ص: 346 ] عام الفتح ، وولى ابنه قيسا ، وعزل إماما كان يصلي بقوم لما بصق في القبلة ، وولى مرة [21] رجلا فلم يقم بالواجب ، فقال : " أعجزتم إذا وليت من لا يقوم بأمري أن تولوا رجلا يقوم بأمري " [22] فقد فوض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته ، فكيف لا يفوض [23] إليهم ابتداء تولية من يقوم بالواجب .
وإذا [24] كان في حياته من يوليه ، ولا يقوم بالواجب فيعزله ، أو يأمر بعزله ، كان لو ولى واحدا بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب ، وحينئذ فيحتاج إلى عزله فإذا ولته الأمة وعزلته كان خيرا لهم من أن يعزلوا من ولاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف ، وعلى هذا فنقول في :
الوجه الخامس : إن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أولى من الاستخلاف [25] ، كما اختاره الله لنبيه ، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور ، وذلك لأنه : إما أن يقال : يجب أن لا يستخلف في حياته من ليس [ ص: 347 ] بمعصوم ، وكان يصدر من بعض نوابه أمور منكرة فينكرها عليهم ، ويعزل من يعزل منهم ، كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم ، فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف دياتهم ، وأرسل علي بن أبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب [26] ، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه [27] إلى السماء ، وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " . [28]
واختصم خالد ، وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ [29] مد أحدهم ، ولا نصيفه " [30] ، ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلى الله عليه وسلم خالدا .
واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قوم فرجع فأخبره أن القوم امتنعوا ، وحاربوا فأراد غزوهم ، فأنزل الله تعالى: ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) ( سورة الحجرات : 6 ) .
وولى سعد بن عبادة يوم الفتح فلما بلغه أن سعدا قال :
اليوم يوم الملحمة اليوم تستباح الحرمة عزله ، وولى ابنه قيسا ، وأرسل بعمامته علامة على عزله ليعلم سعد أن ذلك أمر من النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان يشتكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر [31] الله به ، كما اشتكى أهل [ ص: 348 ] قباء معاذا لتطويله الصلاة بهم ، لما قرأ البقرة في صلاة العشاء ، فقال : " أفتان أنت يا معاذ ؟ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ، والليل إذا يغشى ، ونحوها " [32] .
وفي الصحيح أن رجلا قال له : إني أتخلف عن صلاة الفجر مما يطول بنا فلان ، فقال : " يا أيها الناس إذا أم أحدكم فليخفف ، فإن من ورائه الضعيف ، والكبير ، وذا الحاجة ، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء " [33] .
ورأى إماما قد بصق في قبلة المسجد فعزله عن الإمامة ، وقال إنك آذيت الله ورسوله " [34] .
[ ص: 349 ] وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله [35] عنه .
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته يعلم خلفاءه ما جهلوا ، ويقومهم إذا زاغوا ، ويعزلهم إذا لم يستقيموا ، ولم يكونوا مع ذلك معصومين فعلم أنه لم يكن يجب عليه أن يولي المعصوم .
وأيضا ، فإن هذا تكليف ما لا يمكن ، فإن الله لم يخلق أحدا معصوما غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلو كلف أن يستخلف معصوما لكلف ما لا يقدر عليه ، وفات مقصود الولايات ، وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا .
وإذا علم أنه كان يجوز - بل يجب - أن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم فلو استخلف بعد موته ، كما استخلف في حياته لاستخلف [36] أيضا غير معصوم ، وكان لا يمكن أن يعلمه ، ويقومه ، كما كان يفعل في حياته فكان أن لا يستخلف خيرا من أن يستخلف [37] .
والأمة قد بلغها أمر الله ونهيه ، وعلموا ما أمر الله به ونهى عنه ، فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله ، ويعاونونه على إتمامهم القيام [ ص: 350 ] بذلك إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك ، فما فاته من العلم بينه له من يعلمه ، وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة ، وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم [38] ، وليس على الرسول ما حملوه ، كما أنهم ليس عليهم ما حمل .
فعلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف ، وأن من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس .
وإذا علم الرسول أن الواحد من الأمة هو أحق بالخلافة ، كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره ، كان في دلالته للأمة على أنه أحق مع علمه بأنهم يولونه ما يغنيه عن استخلافه لتكون الأمة هي القائمة بالواجب ، ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول .
وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر ، وخاف أن لا يولوه إذا لم يستخلفه [39] لشدته ، فولاه هو - كان ذلك هو المصلحة للأمة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم علم أن الأمة يولون أبا بكر ، فاستغنى بذلك عن توليته ، مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية ، وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر ، فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو اللائق به لفضل علمه ، وما فعله صديق الأمة هو اللائق به إذ لم [40] يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 351 ] الوجه السادس : أن يقال " هب أن الاستخلاف واجب [41] ، فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على قول من يقول : إنه استخلفه ، ودل على استخلافه على القول الآخر .
وقوله : " لأنه لم يعزله عن المدينة " .
قلنا هذا باطل ، فإنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم انعزل علي بنفس رجوعه ، كما كان غيره ينعزل إذا رجع ، وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع ، واستخلف على المدينة في حجة الوداع غيره .
أفترى النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقيما وعلي باليمن ، وهو خليفة بالمدينة ؟ !
ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنهم ظنوا أن عليا ما زال خليفة على المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يعلموا أن عليا بعد ذلك [42] أرسله النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود ، وأمر عليه أبا بكر ، ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن ، كما أرسل معاذا ، وأبا موسى .
، ثم لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع استخلف على المدينة غير علي ، ووافاه علي بمكة ، ونحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة نحر بيده ثلثيها ، ونحر علي ثلثها .
وهذا كله معلوم عند أهل العلم متفق عليه بينهم ، وتواترت به [ ص: 352 ] الأخبار كأنك تراه بعينك ، ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية .
والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف ، أو موته [43] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها ، كما أن سائر من استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع انقضت خلافته ، وكذلك سائر ولاة الأمور إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلف .
ولهذا لا يصلح أن يقال : إن الله يستخلف أحدا عنه ، فإنه حي قيوم شهيد [44] مدبر لعباده منزه عن الموت ، والنوم ، والغيبة .
ولهذا لما قالوا لأبي بكر : يا خليفة الله . قال : لست خليفة الله ، بل خليفة رسول الله ، وحسبي ذلك [45] .
والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل " [46] ، وقال في حديث الدجال : " والله خليفتي على كل مسلم " [47] .
[ ص: 353 ] وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله .
كقوله: ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ) ( سورة يونس : 14 ) ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) ( سورة الأعراف : 69 ) ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ( سورة النور : 55 ) .
وكذلك قوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) ( سورة البقرة : 30 ) أي : عن خلق كان في الأرض قبل ذلك ، كما ذكر [48] المفسرون ، وغيرهم [49] .
وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية ، وغيرهم أن الإنسان خليفة الله فهذا جهل وضلال .


