فرقوا عن المنية ، واجعلوا الرأس رأسين ، ولا تلثوا بدار معجزة ، وأصلحوا مثاويكم ، وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم ، وقال : اخشوشنوا واخشوشبوا ، وتمعددوا " .
قال : حدثناه عن أبو بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، أبي العدبس الأسدي ، عن عمر .
قوله : "فرقوا عن المنية ، واجعلوا الرأس رأسين" ، يقول : إذا أراد أحدكم أن يشتري شيئا من الحيوان ؛ من مملوك أو غيره من الدواب ، فلا يغالين به ، ولكن ليجعل ثمنه في رأسين ، وإن كانا دون الأول ، فإن مات أحدهما بقي الآخر .
وقوله : "ولا تلثوا بدار معجزة " فالإلثاث : الإقامة ، يقول : لا تقيموا ببلد قد أعجزكم فيه الرزق ، ولكن اضطربوا في البلاد .
وهذا شبيه بحديثه الآخر : "إذا اتجر أحدكم في شيء ثلاث مرات ، فلم يرزق منه ، فليدعه " [ ص: 225 ] .
[قال ] : وقد يفسر هذا تفسيرا آخر ، يقال : إنه أراد الإقامة بالثغور مع العيال . أبو عبيد
قال يقول : فليس بموضع ذرية ، فهذا هو الإلثاث بدار معجزة . أبو عبيد :
وقوله : وأصلحوا مثاويكم . المثاوي : المنازل ، يقال : ثويت بالمكان : إذا نزلت به ، وأقمت ، ولهذا قيل لكل نازل : ثاو .
وهذا معنى قراءة "عبد الله " : (لنثوينهم من الجنة غرفا ) أي : لننزلنهم .
[قال ] : وهكذا كان يقرأ الكسائي .
وقوله : "وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم " : يعني دواب الأرض ؛ العقارب والحيات ، يقول : احترسوا منهن ، ولا يظهر لكم منهن شيء إلا قتلتموه .
وقوله : "اخشوشنوا " : هو من الخشونة في اللباس والمطعم .
واخشوشبوا أيضا شبيه به ، وكل شيء غليظ خشن ، فهو أخشب وخشب [ ص: 226 ] .
وهو من الغلظ ، وابتذال النفس في العمل ، والاحتفاء في المشي ليغلظ الجسد ، ويجسو .
ومنه حديث النبي - صلى الله عليه [وسلم ] - في مكة : "لا تزول حتى يزول أخشباها " والأخشب : الجبل ، قال يصف الظليم - : ذو الرمة -
شخت الجزارة مثل البيت سائره من المسوح خدب شوقب خشب
وقوله : "تمعددوا " فيه قولان :يقال : هو من الغلظ أيضا ، ومنه قيل للغلام إذا شب وغلظ : قد تمعدد ، قال الراجز :
ربيته حتى إذا تمعددا
[يصف عقوق ابنه ] .
ويقال [في ] تمعددوا : تشبهوا بعيش معد ، وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش ، يقول : فكونوا مثلهم ، ودعوا التنعم ، وزي العجم .
وهكذا هو في حديث له آخر : "عليكم باللبسة المعدية " [ ص: 227 ] .