فصل  
إذا ثبت هذا ؛ فكل من عمل على هذا القصد ؛ فعمله غير صحيح ؛ لأنه عامل : إما بغير شريعة ؛ لأنه لم يتبع أدلتها ، وإما عامل بشرع منسوخ ،  والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ   باطل بلا خلاف ؛ لأن الترهب والامتناع من اللذات والنساء . . . وغير ذلك ؛ إن كان مشروعا ؛ ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم :  لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني  ، وهو معنى البدعة .  
فإن قيل : فقد تقدم من نقل  ابن العربي  في الرهبانية أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة ؛ قال : " وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان " .  
 [ ص: 434 ] وقد بسط   الغزالي  هذا الفصل في " الإحياء " عند ذكر  العزلة   ، وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية .  
وحاصله أن ذلك مشروع ، بل هو الأولى عند عروض العوارض ، وعندما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالا على الإنسان ، ومؤديا إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز ؛ كما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم :  يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن     . . . وسائر ما جاء في هذا المعنى .  
وأيضا ؛ فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :  واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا   ، والتبتل ـ على ما قاله   زيد بن أسلم  ـ رفض الدنيا ؛ من قولهم : بتلت الحبل بتلا ؛ إذا قطعته ، ومعناه : القطع من كل شيء إلا منه .  
وقال  الحسن  وغيره : " بتل إليه نفسه واجتهد " .  
وقال  ابن زيد     : " تفرغ لعبادته " .  
هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلى عبادة الله ، ورفض أسباب الدنيا ، والتخلي عن الحواضر إلى البوادي ، واتخاذ الخلوات في الجبال والبراري ، حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه .  
فما وجه ذلك ؟  
 [ ص: 435 ] فالجواب : أن  الرهبانية   إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأول فلا نسلم أنها في شرعنا ؛ لما تقدم من الأدلة على نسخها ، كانت لعارض أو لغير عارض ، إذ لا رهبانية في الإسلام ، وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل حسبما تقدم .  
وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المخاطب بقوله :  وتبتل إليه تبتيلا   ؛ فهذا هو الذي نحن في تقريره ، وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم .  
وليس في كلام   زيد بن أسلم  وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى ؛ لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها ، بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية .  
واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد كانوا ( رضي الله تعالى عنهم ) مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم ، منفقين له حيث ندبوا ، لم يتعلق بقلوبهم منه شيء ، إذا عن لهم أمر أو نهي ، بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم العاجلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه ، وهو التوسط الذي تقدم ذكره .  
ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد ، فبادروا إلى الامتثال ، ولم يقولوا : هو شاغل لنا عما أمرنا به ؛ لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به ؛ فإن الأصل الشرعي أن كل مطلوب هو من جملة ما يتعبد به      [ ص: 436 ] إلى الله تعالى ويتقرب به إليه ، فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك ، والعادات كلها إذا قصد بها امتثال أمر الله عبادات ؛ إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ، ويجيء بها نحو الحظ مجردا ، فإذ ذاك ؛ لا تقع متعبدا بها ، ولا مثابا عليها ، وإن صح وقوعها شرعا .  
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ، ولا يمكن مع فهمه أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا ( منها ) .  
فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريان على السنة ، وكذلك كلام  الحسن  وغيره في تفسير الآية صحيح إذا أخذ هذا المأخذ ؛ أي : اتبع الهدى واتبع أمر ربك ؛ فإنه العليم بما يصلح لك ، والقائم على تدبيرك ، ولذلك قال على أثرها :  رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا   ؛ أي : فكما أنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك ؛ فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت كسبك ، مما هو تكليف في حقك ، ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالا ومآلا .  
وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص ، وهو قول  مجاهد  والضحاك     .  
وقال  قتادة     : " أخلص له العبادة والدعوة " .  
فعلى هذا ؛ لا متعلق فيها لمورد السؤال .  
 [ ص: 437 ] فإذا تقرر هذا ؛ فالفرار من العوارض بالسياحة ، واتخاذ الصوامع ، وسكنى الجبال والكهوف ؛ إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان ، بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس ؛ لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم ؛ فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية ؛ غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز ، أو النقل العرفي الذي لم يجر عليه معتاد اللغة ، فلا تدخل في مقتضى قوله تعالى :  ورهبانية ابتدعوها   ؛ لا في الاسم ولا في المعنى .  
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ؛ فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح ؛ لأنه كالشرع بغير شريعة  محمد   صلى الله عليه وسلم ، فلا ينتظمه معنى قوله صلى الله عليه وسلم :  من رغب عن سنتي ؛ فليس مني     .  
وأما ما ذكره   الغزالي  وغيره من تفضيله العزلة على المخالطة ، وترجيح الغربة على اتخاذ أهل ؛ عند اعتوار العوارض ؛ فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا .  
وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادرا على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهي عنه أو لا :  
فإن كان قادرا في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم ؛ فلا إشكال في كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن .  
 [ ص: 438 ] وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ؛ ففي بقاء الطلب هنا تفصيل ـ بحسب ما يظهر من كلام  أبي حامد  رحمه الله ( تعالى ) ـ ، إذ يكون المطلوب مندوبا ، لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع :  
فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال ؛ كالمندوب للصدقة على المحتاج لا ( مال ) بيده إلا مال الغير ، فلا يجوز له العمل بالندب ؛ لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه ، لا يجوز ، فهو كالفاقد لما يتصدق به ، وكالقادم على مريضه المشرف ، أو دفن ميت يخاف تغييره بتركه ، ثم يقوم يصلي نافلة ، والمتزوج لا يجد إلا مالا حراما . . . وأشباه ذلك .  
وقد يكون المطلوب واجبا ؛ إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه ، وهذا غير معتد به ؛ لأن القيام بالواجب آكد ، أو يوقعه في ممنوع ؛ فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة .  
إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد ، كما أن المحرمات كذلك ، فلا بد من الموازنة ؛ فإن ترجح جانب الواجب ؛ صار المحرم في حكم العفو ، أو حكم التلافي إن كان مما تتلافى مفسدته ـ ، وإن ترجح جانب المحرم ؛ سقط حكم الواجب أو طلب بالتلافي ، وإن تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين ، والأولى ـ عند جماعة ـ رعاية جانب المحرم ؛ لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح .  
فإذا  كانت العزلة مؤدية إلى السلامة   ؛ فهي الأولى في أزمنة الفتن ، والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط ، فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا ، وضابطها ما صد عن طاعة الله .  
 [ ص: 439 ] ومثل هذا ما يجري بين المندوب والمكروه وبين المكروهين .  
وإن  كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعات ، والجماعات   ، والتعاون على الطاعات . . . وأشباه ذلك ؛ فإنها [ موقعة في المحرم من جهة ، و ] أيضا سلامة من جهة أخرى ، ويقع التوازن بين المأمورات والمنهيات .  
وكذلك النكاح ، إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ، ولم يكن في تركه معصية ؛ كان تركه أولى .  
ومن أمثلة ذلك ـ غير أنه مشكل ـ ما ذكره   الوليد بن مسلم  بسنده إلى   حبيب بن مسلمة     : أنه قال لـ  معن بن ثور     : هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات ؟ قال معن : ولم ؟ قال : إنه لما أحدث الملوك البدع ، وضيعوا أمر النبيين ، وأكلوا الخنازير ؛ اعتزلوهم في الديارات ، وتركوهم وما ابتدعوا ، فتخلوا للعبادة ، قال  حبيب  لـ  معن     : فهل لك ؟ قال : ليس بيوم ذلك .  
فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ، ومراده أن  اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبة الأهواء   على حد ما شرع في ديننا مشروع ، لا أن نفس ما فعلت النصارى في رهبانيتها مشروع لنا ؛ لما ثبت من نسخه .  
فعلى هذه الأحرف جرى كلام الإمام  أبي حامد  وغيره ممن نقل هو عنهم واحتج بهم ، ويدل على ذلك أن جماعة ممن نقل عنهم الترغيب في العزلة كانوا متزوجين ، ولم يكن ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه ؛ بناء منهم على التحري في الموازنة بين ما يلحقهم بسبب التزوج .  
فلا إشكال إذا على هذا التقرير في كلام   الغزالي  ولا غيره ممن سلك      [ ص: 440 ] مسلكه ؛ لأنهم بنوا على أصل قطعي في الشرع ، محكم لا ينسخه شيء ، وليس من مسألتنا بسبيل .  
ولكن ثم تحقيق زائد لا يسع إيراده هاهنا ، وأصله مأخوذ من كتاب الموافقات من تمرن فيه حقق هذا المعنى على التمام ، وبالله تعالى التوفيق .  
والحاصل أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا الإضافية ، لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أصلا وفرعا .  
				
						
						
