[ ص: 477 ]       ( فصل ) : ولا يستبعد  اصطلاح الأمة الغضبية على المحال واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال   ، فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها ، وأخذ بلادها ، وانطمست حقائق سالف أخبارها ، ودرست معالم دينها وآثارها ، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولها وأسلافها ، لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات وخراب البلاد ، وإحراقها وجلاء أهلها عنها ، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها إلى أن تستحيل رسوم ديانتها وتضمحل أصول شرعها وتتلاشى قواعد دينها ، وكلما كانت الأمة أقدم ، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار كان حظها من اندراس دينها أوفر .  
وهذه الأمة الغضبية أوفر الأمم حظا من ذلك ، فإنها أقدم الأمم عهدا ، واستولت عليها سائر الأمم من  الكشدانيين   والكلدانيين   والبابليين   والفرس   واليونان   والنصارى   ، وما من هذه الأمم أمة إلا قصدت استئصالهم ، وإحراق كتبهم وتخريب بلادهم ، حتى لم يبق لهم مدينة ولا جيش ولا حصن إلا بأرض  الحجاز   وخيبر   ، فأعز ما كانوا هناك ، فلما قام الإسلام واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى ، وصادف هذه الشرذمة  بخيبر   والمدينة   فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل والسبي وتخريب الديار ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ، وكانوا من سبط   [ ص: 478 ] لم يصبهم الجلاء ، فكتب الله تعالى عليهم الجلاء ، وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق ، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين ولا آمن ، فإن الذي نالهم من  النصارى   والفرس   وعباد الأصنام لم ينلهم مع المسلمين مثله ، وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في طلبهم ، وعبدوا الأصنام ، وأحضروا من البلاد سدنة الأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة ، وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشرع  موسى   أزمنة طويلة ، وأعصارا متصلة ، فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم فما الظن بشأنهم مع أعدائهم ، وأشد الأعداء عليهم  كالنصارى   الذين عندهم أنهم قتلوا  المسيح   وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ، ووضعوا الشوك على رأسه ،  وكالفرس   والكلدانيين   وغيرهم .  
وكثيرا ما منعهم ملوك  الفرس   من الختان وجعلوهم قلفا ، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم أن معظم صلواتهم دعاء إلى الأمم بالبوار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان ، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة ، فرأت اليهود أن الفرس قد جدوا في منعهم من الصلاة ، فاخترعوا أدعية خرجوا بها صلاتهم سموها الخزانة ، وصاغوا لها ألحانا عديدة وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها .  
والفرق بين الخزانة والصلاة ، أن الصلاة بغير لحن ، ويكون المصلي فيها وحده ، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه ، وكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم ، قالت   [ ص: 479 ] اليهود : نحن نغني وننوح على أنفسنا ، فيخلون بينهم وبين ذلك ، فجاءت دولة الإسلام فأمنوا فيها غاية الأمن ، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم ، واستمرت الخزانة فيهم ، في الأعياد والمواسم والأفراح ، وتعوضوا بها عن الصلاة ، والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم وعملهم بالغضب الممدود المستمر عليهم ، ومسخ أسلافهم قردة ، وقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت وخروجهم عن شريعة  موسى   والتوراة وتعطيلهم لأحكامها ، يقولون في كل يوم في صلاتهم ( محبة الدهر ) :  
( أحبنا يا إلهنا ! يا أبانا ! أنت أبونا منقذنا )  
ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب ، وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه ، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل  داود   إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود ، وهو بزعمهم  المسيح   الذي وعدوا به ، وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم ، وينخونه ويحمونه ، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا . وضلال هذه الأمة الغضبية وكذبها وافتراؤها على الله تعالى وعلى دينه وأنبيائه لا مزيد عليه .  
وأما أكلهم الربا والسحت والرشا ، واستبدادهم دون العالم بالخبث والمكر والبهت ، وشدة الحرص على الدنيا ، وقسوة القلوب ، والذل والصغار ، والخزي والتحيل على الأغراض الفاسدة ، ورمي البرآء بالعيوب والطعن على الأنبياء ، فأرخص شيء عندهم ، وما عيروا به المسلمين ومما لم يذكروه فهو في بعضهم وليس في جميعهم ، ونبيهم وكتابه ودينه وشرعه بريء منه ، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم ، فإلى الله تعالى إيابهم وعلى الله حسابهم .  
				
						
						
