ذكر فتح البيت المقدس   
لما فرغ  صلاح الدين  من أمر عسقلان  وما يجاورها من البلاد ، على ما تقدم ، وكان قد أرسل إلى مصر  أخرج الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة ، ومقدمهم  حسام الدين لؤلؤ الحاجب  ، وهو معروف بالشجاعة ، والشهامة ، ويمن النقيبة . 
فأقاموا في البحر يقطعون الطريق على الفرنج ، كلما رأوا لهم مركبا غنموه ، وشانيا أخذوه ، فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان  إلى البيت المقدس    . 
وكان به  البطرك  المعظم عندهم ، وهو أعظم شأنا من ملكهم ، وبه أيضا  باليان بن بيرزان  ، صاحب الرملة  ، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك . 
وبه أيضا من خلص من فرسانهم من حطين  ، وقد جمعوا وحشدوا ، واجتمع أهل تلك النواحي ،   [ ص: 34 ] عسقلان  وغيرها . 
فاجتمع به كثير من الخلق ، كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس  ويأخذوه منهم ، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه ، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلا ، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم ، مجمعين على حفظه والذب عنه بجهدهم وطاقتهم ، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم ، ونصبوا المجانيق على أسواره ليمنعوا من يريد الدنو منه والنزول عليه . 
ولما قرب  صلاح الدين  منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه ، غير محتاط ولا حذر ، فلقيه جمع من الفرنج قد خرجوا من القدس  ليكونوا يزكا ، فقاتلوه وقاتلهم ، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه ، فأهم المسلمين قتله ، وفجعوا بفقده ، وساروا حتى نزلوا على القدس  منتصف رجب . 
فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم ، وسمعوا لأهله من الجلبة ، والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع ، وبقي  صلاح الدين  خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتله ، لأنه في غاية الحصانة والامتناع ، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال ، نحو باب عمودا  ، وكنيسة صهيون    . 
فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها ، ونصب تلك الليلة المجانيق ، فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها ، ورمى بها . 
ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورموا بها ، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس ، كل واحد من الفريقين يرى ذلك دينا ، وحتما واجبا ، فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون . 
وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون ، فيقتل من الفريقين ، وممن استشهد من المسلمين الأمير  عز الدين عيسى بن مالك  ، وهو من أكابر الأمراء وكان أبوه صاحب قلعة جعبر  ، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم ، فقتل إلى رحمة الله تعالى . 
وكان محبوبا إلى الخاص والعام ، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك ، وأخذ من قلوبهم ، فحملوا حملة رجل واحد ، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم فأدخلوهم بلدهم ، ووصل المسلمون إلى الخندق ، فجازوه   [ ص: 35 ] والتصقوا إلى السور فنقبوه ، وزحف الرماة يحمونهم ، والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار ليتمكن المسلمون من النقب ، فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة . 
فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين ، وتحكم المجانيق بالرمي المتدارك ، وتمكن النقابين من النقب ، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك ، اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون ، فاتفق رأيهم على طلب الأمان ، وتسليم البيت المقدس  إلى  صلاح الدين     . 
فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان ، فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم ، وقال : لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ، من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها . 
فلما رجع الرسل خائبين محرومين ، أرسل  باليان بن بيرزان  وطلب لنفسه ليحضر عند  صلاح الدين  في هذا الأمر وتحريره ، فأجيب إلى ذلك ، وحضر عنده ، ورغب في الأمان ، وسأل فيه ، فلم يجبه إلى ذلك ، واستعطفه فلم يعطف عليه ، واسترحمه فلم يرحمه . 
فلما أيس من ذلك قال له : أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى ، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ، ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم ، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة . 
فإذا رأينا أن الموت لا بد منه ، فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا ، ولا نترككم تغنمون منها دينارا واحدا ولا درهما ، ولا تسبون وتأسرون رجلا ولا امرأة . 
وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة  والمسجد الأقصى  وغيرهما من المواضع ، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين ، وهم خمسة آلاف أسير ، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه ، ثم خرجنا إليكم كلنا فقاتلناكم قتال من يريد [ أن ] يحمي دمه ونفسه ، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله ، ونموت أعزاء أو نظفر كراما . 
فاستشار  صلاح الدين  أصحابه . فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان ، وأن لا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدرى عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي ، ونحسب أنهم أسارى بأيدينا ، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم ، فأجاب  صلاح الدين  حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج . 
فاستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير ، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين ، وتزن المرأة خمسة دنانير ، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا ، ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤد ما   [ ص: 36 ] عليه فقد صار مملوكا ، فبذل  باليان بن بيرزان  عن الفقراء ثلاثين ألف دينار ، فأجيب إلى ذلك . 
وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب ، وكان يوما مشهودا ، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها . 
ورتب  صلاح الدين  على أبواب البلد ، في كل باب ، أمينا من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم ، فاستعملوا الخيانة ، ولم يؤدوا فيه أمانة ، واقتسم الأمناء الأموال ، وتفرقت أيدي سبا ، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن ، وعم الناس . 
فإنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان ، ولا يعجب السامع من ذلك ، فإن البلد كبير ، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان  وغيرها ، والداروم  ، والرملة  ، وغزة  وغيرها من القرى ، بحيث امتلأت الطرق والكنائس ، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي . 
ومن الدليل على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة ، وأطلق  باليان بن بيرزان  ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار ، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ما يعطي ، وأخذ أسيرا ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة وصبي ، هذا بالضبط واليقين . 
ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس  ، فيطلقهم ويأخذ هو قطيعتهم ، وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زي الجند المسلمين ، ويخرجونهم ، ويأخذون منهم قطيعة قرروها ، واستوهب جماعة من  صلاح الدين  عددا من الفرنج ، فوهبهم لهم ، فأخذوا قطيعتهم ، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل . 
وكان بالقدس  بعض نساء الملوك من الروم  قد ترهبت وأقامت به ، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير ، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم ، فطلبت الأمان لنفسها ومن معها ، فأمنها وسيرها . 
وكذلك أيضا أطلق ملكة القدس  التي كان زوجها الذي أسره  صلاح الدين  قد ملك الفرنج بسببها ، ونيابة عنها كان يقوم بالملك ، وأطلق مالها وحشمها ، واستأذنته في المصير إلى زوجها ، وكان حينئذ محبوسا بقلعة نابلس  ، فأذن لها ، فأتته وأقامت عنده . 
 [ ص: 37 ] وأتته أيضا امرأة  للبرنس أرناط  صاحب الكرك  ، وهو الذي قتله  صلاح الدين  بيده يوم المصاف بحطين  ، فشفعت في ولد لها مأسور ، فقال لها  صلاح الدين     : إن سلمت الكرك  أطلقته ، فسارت إلى الكرك  ، فلم يسمع منها الفرنج الذي فيه ، ولم يسلموه فلم يطلق ولدها ، ولكنه أطلق ما لها ومن تبعها . 
وخرج  البطرك  الكبير الذي للفرنج ، ومعه من أموال البيع منها : الصخرة  والأقصى  ، وقمامة  وغيرها ، ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكان له من المال مثل ذلك ، فلم يعرض له  صلاح الدين  ، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين ، فقال : لا أغدر به ، ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير ، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور    . 
وكان على رأس قبة الصخرة  صليب كبير مذهب ، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب ، فلما فعلوا وسقط صاح الناس كلهم صوتا واحدا من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج : أما المسلمون فكبروا فرحا ، وأما الفرنج فصاحوا تفجعا وتوجعا ، فسمع الناس ضجة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها . 
فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر  صلاح الدين  بإعادة الأبنية إلى حالها القديم ، فإن الداوية  بنوا غربي الأقصى  أبنية ليسكنوها ، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك ، وأدخلوا بعض الأقصى  في أبنيتهم فأعيد إلى الأول ، وأمر بتطهير المسجد والصخرة  من الأقذار والأنجاس ، ففعل ذلك أجمع . 
ولما كان الجمعة الأخرى ، رابع شعبان ، صلى المسلمون فيه الجمعة ، ومعهم  صلاح الدين  ، وصلى في قبة الصخرة  ، وكان الخطيب والإمام  محيي الدين بن الزكي ، قاضي دمشق   ، ثم رتب فيه  صلاح الدين  خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس . 
وأمر أن يعمل له منبر ، فقيل له : إن   نور الدين محمودا  كان قد عمل بحلب  منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه ، وقال : هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس  ، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله ، فأمر بإحضاره ، فحمل من حلب  ونصب بالقدس  ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة ، وكان هذا من كرامات  نور الدين  ، وحسن مقاصده ، رحمه الله . 
 [ ص: 38 ] ولما فرغ  صلاح الدين  من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى  واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه ، وتدقيق نقوشه ، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد مثله ، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، قد ادخر على طول السنين . 
فشرعوا في عمارته ، ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور ، وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها ، فأمر بكشفها . 
وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة ، فكانوا يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها ، وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة ، ويجعل في مذبحها ، فخاف بعض ملوكهم أن تفنى ، فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها . 
فلما كشفت نقل إليها  صلاح الدين  المصاحف الحسنة ، والربعات الجيدة ، ورتب القراء ، وأدر عليهم الوظائف الكثيرة ، فعاد الإسلام هناك غضا طريا ، وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس  لم يفعلها بعد   عمر بن الخطاب  ، رضي الله عنه ، غير  صلاح الدين  ، رحمه الله ، وكفاه ذلك فخرا وشرفا . 
وأما الفرنج من أهله فإنهم أقاموا ، وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم ، وما لا يطيقون حمله ، وباعوا ذلك بأرخص الثمن ، فاشتراه التجار من أهل العسكر ، واشتراه النصارى  من أهل القدس  الذين ليسوا من الفرنج ، فإنهم طلبوا من  صلاح الدين  أن يمكنهم من المقام في مساكنهم ، ويأخذ منهم الجزية ، فأجابهم إلى ذلك ، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج . 
وترك الفرنج أيضا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبتيات ، وغير ذلك ، وتركوا أيضا من الرخام الذي لا يوجد مثله ، من الأساطين والألواح والفص وغيره ، شيئا كثيرا ثم ساروا . 
				
						
						
