ذكر خروج الفرنج من خنادقهم  
لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج ، وجند لهم  الكند هري  جمعا كثيرا بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين ، فتركوا على عكا  من يحصرها ويقاتل أهلها ، وخرجوا حادي عشر شوال في عدد كالرمل كثرة ، وكالنار جمرة . 
فلما رأى  صلاح الدين  ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون  ، وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا  ، وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان  ، ولقي الفرنج على تعبئة حسنة . 
وكان أولاده  الأفضل علي  ،  والظاهر غازي  ،  والظافر [ خضر     ] مما يلي القلب ، وأخوه  العادل أبو بكر  في الميمنة ، ومعه عساكر مصر  ومن انضم إليهم ، وكان في الميسرة  عماد الدين  ، صاحب سنجار  ،  وتقي الدين  ، صاحب حماة  ،  ومعز الدين سنجر شاه  صاحب جزيرة ابن عمر  ، مع جماعة من أمرائه . 
واتفق أن  صلاح الدين  أخذه مغس كان يعتاده ، فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر ، ونزل   [ ص: 86 ] فيها ينظر إليهم ، فسار الفرنج ، شرقي نهر هناك ، حتى وصلوا إلى رأس النهر ، فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها ، فارتاعوا لذلك ، ولقيهم الجالشية ، وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس . 
فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر ، ولزمهم الجالشية يقاتلونهم ، والفرنج قد تجمعوا ، ولزم بعضهم بعضا ، وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم ، فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال ، فيكون الفصل ، ويستريح الناس ، وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم ، فلزموا مكانهم ، وباتوا ليلتهم تلك . 
فلما كان الغد عادوا نحو عكا  ليعتصموا بخندقهم ، والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف ، وتارة بالرماح ، وتارة بالسهام ، وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم ، فلولا ذلك الألم الذي حدث  بصلاح الدين  لكانت هي الفيصل ، وإنما لله أمر هو بالغه ، فلما بلغ الفرنج خندقهم ، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه ، عاد المسلمون إلى خيامهم ، وقد قتلوا من الفرنج خلقا كثيرا . 
وفي الثالث والعشرين من شوال أيضا كمن جماعة من المسلمين ، وتعرض للفرنج جماعة أخرى ، فخرج إليهم أربعمائة فارس ، فقاتلهم المسلمون شيئا من قتال ، وتطاولوا لهم ، وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين ، فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد . 
واشتد الغلاء على الفرنج حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري ، فصبروا على هذا ، وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم  الأمير أسامة  ، مستحفظ بيروت  ، كان يحمل الطعام وغيره ، ومنهم  سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب  ، كان يحمل من صيدا  أيضا إليهم ، وكذلك من عسقلان  وغيرها ، ولولا ذلك لهلكوا جوعا خصوصا في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر . 
				
						
						
