ذكر حصر الفرنج دمياط  إلى أن ملكوها  
لما عاد الفرنج من حصار الطور  أقاموا بعكا  إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة ، فساروا في البحر إلى دمياط  ، فوصلوا في صفر ، فأرسوا على بر الجيزة ، بينهم وبين دمياط  النيل ، فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط  ، وقد بني في النيل برج كبير منيع ، وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ ، ومدوها في النيل إلى سور دمياط  لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر  ، ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على   [ ص: 305 ] منعها عن أقاصي ديار مصر  وأدانيها . 
فلما نزل الفرنج على بر الجيزة  ، وبينهم وبين دمياط النيل  ، بنوا عليه سورا ، وجعلوا خندقا يمنعهم ممن يريدهم ، وشرعوا في قتال من بدمياط  ، وعملوا آلات ، ومرمات ، وأبراجا يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه . 
وكان البرج مشحونا بالرجال ، وقد نزل  الملك الكامل ابن الملك العادل  ، وهو صاحب ديار مصر  ، بمنزلة تعرف بالعادلية ، بالقرب من دمياط  ، والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط  ، ليمنع العدو من العبور إلى أرضها . 
وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه ، فلم يظفروا منه بشيء ، وكسرت مرماتهم وآلاتهم ، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله ، فبقوا كذلك أربعة أشهر ولم يقدروا على أخذه ; فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر ، فنصب  الملك الكامل  عوض السلاسل جسرا عظيما امتنعوا به من سلوك النيل ، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضا قتالا شديدا ، كثيرا متتابعا حتى قطعوه ، فلما قطع أخذ  الملك الكامل  عدة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل ، فمنعت المراكب من سلوكه . 
فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجا هناك يعرف بالأرزق ، كان النيل يجري فيه قديما ، فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل ، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح ، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة  ، على أرض الجيزة  أيضا ، مقابل المنزلة التي فيها  الملك الكامل  ليقاتلوه من هناك ، فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها ، كانت دمياط  تحجز بينهم وبينه ، فلما صاروا في بورة  حاذوه فقاتلوه في الماء ، وزحفوا غير مرة ، فلم يظفروا بطائل . 
ولم يتغير على أهل دمياط   شيء ; لأن الميرة والأمداد متصلة بهم ، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج ، فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى ، وأبوابها مفتحة ، وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر . 
فاتفق ، كما يريد الله - عز وجل - أن  الملك العادل  توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة - على ما نذكره إن شاء الله - فضعفت نفوس الناس لأنه   [ ص: 306 ] السلطان حقيقة ، وأولاده ، وإن كانوا ملوكا إلا أنهم بحكمه ، والأمر إليه ، وهو ملكهم البلاد ، فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو . 
وكان من جملة الأمراء بمصر  أمير يقال له  عماد الدين أحمد بن علي  ، ويعرف  بابن المشطوب  ، وهو من الأكراد الهكارية  ، وهو أكبر أمير بمصر  ، وله لفيف كثير ، وجميع الأمراء ينقادون إليه ويطيعونه لا سيما الأكراد  ، فاتفق هذا الأمر مع غيره من الأمراء ، وأرادوا أن يخلعوا  الملك الكامل  من الملك ، ويملكوا أخاه  الملك الفائز بن العادل  ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد ، فبلغ الخبر إلى  الكامل  ، ففارق المنزلة ليلا جريدة ، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح  ، فنزل عندها ، وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم ، فركب كل إنسان منهم هواه ، ولم يقف الأخ على أخيه ، ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله ، وتركوا الباقي بحاله من ميرة ، وسلاح ، ودواب ، وخيام وغير ذلك ، ولحقوا  بالكامل     . 
وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد ، فلم يروا من المسلمين أحدا على شاطئ النيل كجاري عادتهم ، فبقوا لا يدرون ما الخبر ، وإذ قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته ، فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط  آمنين بغير منازع ولا ممانع ، وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة ، فغنموا ما في معسكر المسلمين ، فكان عظيما يعجز العادين . 
وكان  الملك الكامل  يفارق الديار المصرية  لأنه لم يثق بأحد من عسكره ، وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة ، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن   الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل  وصل إلى أخيه  الكامل  بعد هذه الحركة بيومين ، والناس في أمر مريج ، فقوي به قلبه واشتد ظهره ، وثبت جنانه ، وأقام بمنزلته ، وأخرجوا  ابن المشطوب  إلى الشام  ، فاتصل  بالملك الأشرف  وصار من جنده . 
فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط  اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها ، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط  ، وقطعوا الطريق ، وأفسدوا ، وبالغوا في الإفساد ، فكانوا أشد   [ ص: 307 ] على المسلمين من الفرنج ، وكان أضر شيء على أهل دمياط   أنها لم يكن بها من العسكر أحد ; لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها ، فأتتهم هذه الحركة بغتة ، فلم يدخلها أحد من العسكر ، وكان ذلك من فعل  ابن المشطوب  ، لا جرم لم يمهله الله ، وأخذه أخذة رابية ، على ما نذكره إن شاء الله . 
وأحاط الفرنج بدمياط  ، وقاتلوها برا وبحرا ، وعملوا عليهم خندقا يمنعهم ممن يريدهم من المسلمين ، وهذه كانت عادتهم ، وأداموا القتال ، واشتد الأمر على أهلها ، وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها ، وسئموا القتال وملازمته ، لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم ، وليس بدمياط  من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة ، ومع هذا فقد صبروا صبرا لم يسمع بمثله ، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض ، ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم ، وتعذر القوت عندهم ، فسلموا البلد إلى الفرنج ، في هذا التاريخ ، بالأمان ، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة ، فتفرقوا أيدي سبا . 
				
						
						
