ذكر قصد كيكاوس ولاية حلب  ، وطاعة صاحبها  للأشرف  ، وانهزام كيكاوس  
في هذه السنة سار  عز الدين كيكاوس بن كيخسرو  ملك الروم إلى ولاية حلب  ، قصدا للتغلب عليها ، ومعه  الأفضل بن صلاح الدين يوسف     . 
وسبب ذلك أنه كان بحلب  رجلان فيهما شر كثير وسعاية بالناس ، فكانا ينقلان إلى صاحبها   الملك الظاهر بن صلاح الدين  عن رعيته ، فأوغرا صدره ، فلقي الناس منهما شدة ، فلما توفي  الظاهر  وولي الأمر  شهاب الدين طغرل  أبعدهما وغيرهما ممن يفعل مثل فعلهما ، وسد هذا الباب على فاعله ، ولم يطرق إليه أحدا من أهله ، فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما ، وثار بهما الناس ، وآذوهما ، وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر فخافا ، ففارقا حلب  ، وقصدا   كيكاوس  فأطمعاه فيها ، وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه ، وأنه يملكها ، ويهون عليه ملك ما بعدها . 
فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه ، وقالوا له : لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه ; وهذا  الأفضل بن صلاح الدين  هو في طاعتك ، والمصلحة أنك تستصحبه معك ، وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد ، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد . 
فأحضر  الأفضل  من سميساط  إليه ، وأكرمه ، وحمل إليه شيئا كثيرا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك ، واستترت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب   [ ص: 325 ] وأعمالها  للأفضل  ، وهو في طاعة   كيكاوس  ، والخطبة له في ذلك أجمع ، ثم يقصدون ديار الجزيرة  ، فما يفتحونه مما بيد   الملك الأشرف  مثل : حران  والرها من البلاد الجزرية  ، تكون  لكيكاوس     . وجرت الأيمان على ذلك ، وجمعوا العساكر وساروا ، فملكوا قلعة رعبان  ، فتسلمها الأفضل ، فمال الناس حينئذ إليهما . 
ثم سارا إلى قلعة تل باشر  ، وفيها صاحبها ولد  بدر الدين دلدرم الياروقي     . فحصروه وضيقوا عليه وملكوه منه ، فأخذها   كيكاوس  لنفسه ، ولم يسلمها إلى  الأفضل  ، فاستشعر  الأفضل  من ذلك ، وقال : هذا أول الغدر ، وخاف أنه إن ملك حلب  يفعل به هكذا ، فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره ففترت نيته ، وأعرض عما كان يفعله ، وكذلك أيضا أهل البلاد ، فكانوا يظنون أن  الأفضل  يملكها فيسهل عليهم الأمر ، فلما رأوا ضد ذلك وقفوا . 
وأما  شهاب الدين أتابك  ولد  الظاهر  صاحب حلب  ، فإنه ملازم قلعة حلب  لا ينزل منها ، ولا يفارقها البتة ، وهذه كانت عادته مذ مات  الظاهر  ، خوفا من ثائر يثور به ، فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه ، وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلىالأفضل  لميلهم إليه ، فأرسل إلى   الملك الأشرف ابن الملك العادل  ، صاحب الديار الجزرية  وخلاط  وغيرها ، يستدعيه إليه لتكون طاعتهم له ، ويخطبون له ، ويجعل السكة باسمه ، ويأخذ من أعمال حلب  ما اختار ، ولأن ولد  الظاهر  هو ابن أخته ، فأجاب إلى ذلك ، وسار إليهم في عساكره التي عنده . وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه ، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم ، وأحضر إليه العرب من طيء  وغيرهم ، ونزل بظاهر حلب    . 
ولما أخذ   كيكاوس  تل باشر  كان  الأفضل  يشير بمعاجلة حلب  قبل اجتماع العساكر بها ، وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا ، فعاد عن ذلك ، وصار يقول : الرأي أننا نقصد منبج  وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء ، قصدا للتمادي ومرور الزمان في لا شيء ; فتوجهوا من تل باشر  إلى جهة منبج  ، وتقدم  الأشرف  نحوهم ، وسارت العرب في مقدمته ; وكان طائفة من عسكر   كيكاوس  ، نحو ألف فارس ، قد سبقت مقدمته له فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي ، فاقتتلوا ، فانهزم عسكر   كيكاوس  ، وعادوا إليه منهزمين ، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم . 
 [ ص: 326 ] فلما وصل إليه أصحابه منهزمين لم يثبت ، بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفا يترقب ، فلما وصل إلى أطرافها أقام . 
وإنما فعل هذا لأنه صبي غر لا معرفة له بالحرب ، وإلا فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض ، فسار حينئذ  الأشرف  ، فملك رعبان  ، وحصر تل باشر  ، وبها جمع من عسكر   كيكاوس  ، فقاتلوه حتى غلبوا ، فأخذت القلعة منهم ، وأطلقهم  الأشرف  ، فلما وصلوا إلى   كيكاوس  جعلهم في دار وأحرقها عليهم ، فهلكوا فعظم ذلك على الناس كافة ، واستقبحوه ، واستضعفوه ، لا جرم لم يمهله الله تعالى لعدم الرحمة في قلبه ، ومات عقيب هذه الحادثة . 
وسلم  الأشرف  تل باشر  وغيرها من بلد حلب  إلى  شهاب الدين أتابك  ، صاحب حلب  ، وكان عازما على اتباع   كيكاوس  ، ودخول بلاده ، فأتاه الخبر بوفاة أبيه  الملك العادل  ، فاقتضت المصلحة العود إلى حلب  ، لأن الفرنج بديار مصر  ، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه ، فعاد إليها ، وكفي كل منهما أذى صاحبه . 
				
						
						
