ذكر دخول التتر  ديار بكر  والجزيرة  ، وما فعلوه في البلاد من الفساد    . 
لما انهزم  جلال الدين  من التتر  على آمد  ، نهب التتر  سواد آمد  وأرزن  وميافارقين  ، وقصدوا مدينة أسعرد  ، فقاتلهم أهلها ، فبذل لهم التتر  الأمان ، فوثقوا منهم واستسلموا ، فلما تمكن التتر  منهم ، وضعوا فيهم السيف وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم ، فلم يسلم منهم إلا من اختفى ، وقليل ما هم . 
حكى لي بعض التجار ، وكان قد وصل آمد  ، أنهم حزروا القتلى ما يزيد على خمسة عشر ألف قتيل ، وكان مع هذا التاجر جارية من أسعرد  ، فذكرت أن سيدها خرج ليقاتل ، وكان له أم ، فمنعته ، ولم يكن لها ولد سواه ، فلم يصغ إلى قولها ، فمشت معه ، فقتلا جميعا ، وورثها ابن أخ للأم ، فباعها من هذا التاجر ، وذكرت من كثرة القتلى أمرا عظيما ، وأن مدة الحصار كانت خمسة أيام . 
ثم ساروا  منها إلى مدينة طنزة  ففعلوا فيها كذلك ، وساروا من طنزة  إلى واد بالقرب من طنزة  يقال له وادي القريشية  ، فيه مياه جارية ، وبساتين كثيرة ، والطريق إليه ضيق ، فقاتلهم أهل القريشية  فمنعوهم عنه ، وامتنعوا عليهم ، وقتل بينهم كثير ، فعاد التتر  ولم يبلغوا منهم غرضا ، وساروا  في البلاد لا مانع يمنعهم ، ولا أحد يقف بين أيديهم ، فوصلوا إلى ماردين  فنهبوا ما وجدوا من بلدها ، واحتمى صاحب ماردين  وأهل دنيسر  بقلعة ماردين  ، وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضا . 
ثم وصلوا إلى نصيبين  الجزيرة  ، فأقاموا عليها بعض نهار ، ونهبوا سوادها وقتلوا   [ ص: 449 ] من ظفروا به ، وغلقت أبوابها ، فعادوا عنها ، ومضوا إلى بلد سنجار  ، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار  ، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور  ، فوصلوا إلى عرابان  ، فنهبوا ، وقتلوا ، وعادوا . 
ومضى طائفة منهم على طريق الموصل  ، فوصل القوم إلى قرية تسمى المؤنسة  ، وهي على مرحلة من نصيبين  ، بينها وبين الموصل  ، فنهبوها واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها ، فقتلوا كل من فيه . 
وحكي لي عن رجل منهم أنه قال : اختفيت منهم ببيت فيه تبن ، فلم يظفروا بي ، وكنت أراهم من نافذة في البيت ، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان ، فيقول : لا بالله ، فيقتلونه ، فلما فرغوا من القرية ، ونهبوا ما فيها ، وسبوا الحريم ، رأيتهم وهم يلعبون على الخيل ، ويضحكون ، ويغنون بلغتهم بقول : لا بالله . 
ومضى طائفة منهم إلى نصيبين  الروم  ، وهي على الفرات  ، وهما من أعمال آمد  ، فنهبوها ، وقتلوا فيها ، ثم عادوا إلى آمد  ، ثم إلى بلد بدليس  ، فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال ، فقتلوا فيها يسيرا ، وأحرقوا المدينة . 
وحكى إنسان من أهلها ، قال : لو كان عندنا خمس مائة فارس ، لم يسلم من التتر  أحد ; لأن الطريق ضيق بين الجبال ، والقليل يقدر على منع الكثير . 
ثم ساروا من بدليس  إلى خلاط  ، فحصروا مدينة من أعمال خلاط  يقال لها : باكرى  ، وهي من أحصن البلاد ، فملكوها عنوة ، وقتلوا كل من بها ، وقصدوا مدينة أرجيش  من أعمال خلاط  ، وهي مدينة كبيرة عظيمة ، ففعلوا كذلك ، وكان هذا في ذي الحجة . 
ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله - سبحانه وتعالى - في قلوب الناس منهم ، حتى قيل : إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس ، فلا يزال يقتلهم واحدا بعد واحد ، لا يتجاسر أحد [ أن ] يمد يده إلى ذلك الفارس . 
ولقد بلغني أن إنسانا منهم أخذ رجلا ، ولم يكن مع التتري  ما يقتله به ، فقال له : ضع رأسك على الأرض ولا تبرح ، فوضع رأسه على الأرض ، ومضى التتري  فأحضر سيفا وقتله به . 
وحكى لي رجل قال : كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق ، فجاءنا فارس   [ ص: 450 ] من التتر  ، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضا ، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم ، فقلت لهم : هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب ؟ فقالوا : نخاف . فقلت : هذا يريد قتلكم الساعة ، فنحن نقتله ، فلعل الله يخلصنا ، فوالله ما جسر أحد [ أن ] يفعل ، فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا ، وأمثال هذا كثير . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					