قال المانعون من وقوع الثلاث : التحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله سبحانه وتعالى أصدق قسم وأبره ، أنا لا نؤمن حتى نحكمه  [ ص: 238 ] فيما شجر بيننا ، ثم نرضى بحكمه ، ولا يلحقنا فيه حرج ، ونسلم له تسليما لا إلى غيره كائنا من كان ، اللهم إلا أن تجمع أمته إجماعا متيقنا لا نشك فيه على حكم ، فهو الحق الذي لا يجوز خلافه ، ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبدا ، ونحن قد أوجدناكم من الأدلة ما تثبت المسألة به ، بل وبدونه ، ونحن نناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلة ، وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكم على أنفسنا إلا نصا عن الله ، أو نصا ثابتا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو إجماعا متيقنا لا شك فيه ، وما عدا هذا فعرضة لنزاع ، وغايته أن يكون سائغ الاتباع لا لازمه ، فلتكن هذه المقدمة سلفا لنا عندكم ، وقد قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول   ) [ النساء : 59 ] ، فقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة ، فلا سبيل إلى ردها إلى غير الله ورسوله البتة ، وسيأتي أننا أحق بالصحابة ، وأسعد بهم فيها ، فنقول : 
أما منعكم لتحريم جمع الثلاث ، فلا ريب أنها مسألة نزاع ، ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجة عليكم . 
أما قولكم : إن القرآن دل على جواز الجمع ، فدعوى غير مقبولة ، بل باطلة ، وغاية ما تمسكتم به إطلاق القرآن للفظ الطلاق ، وذلك لا يعم جائزه ومحرمه ، كما لا يدخل تحته طلاق الحائض ، وطلاق الموطوءة في طهرها  ، وما مثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السنة الصحيحة في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء ، ومعلوم أن القرآن لم يدل على جواز كل طلاق حتى تحملوه ما لا يطيقه ، وإنما دل على أحكام الطلاق ، والمبين عن الله عز وجل بين حلاله وحرامه ، ولا ريب أنا أسعد بظاهر القرآن كما بينا في صدر الاستدلال ، وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقا بائنا بغير عوض لمدخول بها ، إلا أن يكون آخر العدد ، وهذا كتاب الله بيننا وبينكم ، وغاية ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيدتها السنة ، وبينت شروطها وأحكامها . 
 [ ص: 239 ] وأما استدلالكم بأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أصحه من حديث ، وما أبعده من استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة  في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ، ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول : إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده ، كما يقوله  الشافعي  ، أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم ، كما يقوله أحمد  في إحدى الروايات عنه ، فالاستدلال به باطل ، لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئا ، وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم ، لم يصح الاستدلال به أيضا لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه ، بل هو واجب الإزالة ، ومؤبد التحريم ، فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ، ومقرر له ، فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره ، وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ، ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ، ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض ، أو نفساء أو في طهر جامعها فيه ، لم يكن عاصيا ، لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤبد التحريم ، ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الطلاق المذكور ، ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن ، وتسميته لعبا بكتاب الله كما تقدم ، فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين ، مقرون لما أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكرون لما أنكره . 
وأما استدلالكم بحديث  عائشة   - رضي الله عنها - ( أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى تذوق العسيلة  ) ، فهذا لا ننازعكم فيه ، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ، بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثا ، وقال ثلاثا إلا من فعل ، وقال : مرة بعد [ ص: 240 ] مرة ، هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال : قذفه ثلاثا ، وشتمه ثلاثا ، وسلم عليه ثلاثا . 
قالوا : وأما استدلالكم بحديث  فاطمة بنت قيس  ، فمن العجب العجاب ، فإنكم خالفتموه فيما هو صريح فيه لا يقبل تأويلا صحيحا ، وهو سقوط النفقة والكسوة للبائن مع صحته وصراحته ، وعدم ما يعارضه مقاوما له وتمسكتم به فيما هو مجمل ، بل بيانه في نفس الحديث مما يبطل تعلقكم به ، فإن قوله : طلقها ثلاثا ليس بصريح في جمعها ، بل كما تقدم ، كيف وفي " الصحيح " في خبرها نفسه من رواية  الزهري  ، عن  عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ،  أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها . 
وفي لفظ في " الصحيح " : أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وهو سند صحيح متصل مثل الشمس ، فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجمل ، وهو أيضا حجة عليكم كما تقدم ؟ 
قالوا : وأما استدلالكم بحديث  عبادة بن الصامت  الذي رواه عبد الرزاق  ، فخبر في غاية السقوط ؛ لأن في طريقه يحيى بن العلاء  ، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي  ، عن إبراهيم بن عبيد الله  ضعيف ، عن هالك ، عن مجهول ، ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه ، أنه لم يعرف في شيء من الآثار صحيحها ولا سقيمها ، ولا متصلها ولا منقطعها ، أن والد  عبادة بن الصامت  أدرك الإسلام ، فكيف بجده ، فهذا محال بلا شك ، وأما حديث  عبد الله بن عمر  ، فأصله صحيح بلا شك ، لكن هذه الزيادة والوصلة التي فيه ، فقلت : يا رسول الله لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي ؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زريق ، وهو الشامي  ، وبعضهم يقلبه ، فيقول : زريق بن شعيب  ،  [ ص: 241 ] وكيفما كان ، فهو ضعيف ، ولو صح ، لم يكن فيه حجة ، لأن قوله : لو طلقتها ثلاثا بمنزلة قوله : لو سلمت ثلاثا ، أو أقررت ثلاثا ، أو نحوه مما لا يعقل جمعه . 
وأما حديث نافع بن عجير  الذي رواه أبو داود  ، أن ركانة  طلق امرأته البتة ، فأحلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إلا واحدة ، فمن العجب تقديم نافع بن عجير  المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ، ولا يدرى من هو ، ولا ما هو على  ابن جريج  ، ومعمر  ،  وعبد الله بن طاووس  في قصة أبي الصهباء  ، وقد شهد إمام أهل الحديث  محمد بن إسماعيل البخاري  بأن فيه اضطرابا ، هكذا قال  الترمذي  في " الجامع " ، وذكر عنه في موضع آخر : أنه مضطرب . فتارة يقول : طلقها ثلاثا ، وتارة يقول : واحدة ، وتارة يقول : البتة . وقال  الإمام أحمد   : وطرقه كلها ضعيفة ، وضعفه أيضا  البخاري  ، حكاه  المنذري  عنه . 
ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواية على حديث عبد الرزاق  عن  ابن جريج  لجهالة بعض بني أبي رافع  ، هذا وأولاده تابعيون ، وإن كان عبيد الله  أشهرهم وليس فيهم متهم بالكذب ، وقد روى عنه  ابن جريج  ، ومن يقبل رواية المجهول ، أو يقول : رواية العدل عنه تعديل له ، فهذا حجة عنده ، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة ، أو أشد ، فكلا ، فغاية الأمر أن تتساقط روايتا هذين المجهولين ، ويعدل إلى غيرهما ، وإذا فعلنا ذلك ، نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم  ، فوجدناه صحيح الإسناد ، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق  ، بقوله : حدثني  داود بن الحصين  ، وقد احتج أحمد  بإسناده في مواضع ، وقد صحح هو وغيره بهذا  [ ص: 242 ] الإسناد بعينه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد زينب  على زوجها  أبي العاص بن الربيع  بالنكاح الأول ، ولم يحدث شيئا . 
وأما  داود بن الحصين  ، عن عكرمة  ، فلم تزل الأئمة تحتج به وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ، ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر ، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به ، وإن قدحتم في عكرمة   - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته ، وارتضاء  البخاري  لإدخال حديثه في " صحيحه " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					