فصل .
وأما إن
nindex.php?page=treesubj&link=6066_6114_6120_6117أجره الشاة أو البقرة أو الناقة مدة معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة ، فهذا لا يجوزه الجمهور ؛ واختار شيخنا جوازه ، وحكاه قولا لبعض أهل العلم ، وله فيها مصنف مفرد ، قال : إذا استأجر غنما أو بقرا ، أو نوقا أيام اللبن بأجرة مسماة ، وعلفها على المالك ، أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخذ اللبن ، جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظئر
قال : وهذا يشبه البيع ، ويشبه الإجارة ؛ ولهذا يذكره بعض الفقهاء في البيع ، وبعضهم في الإجارة ، لكن إذا كان اللبن يحصل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم ، فإنه يشبه استئجار الشجر ، وإن كان المالك هو الذي يعلفها ، وإنما يأخذ المشتري لبنا مقدرا ، فهذا بيع محض ، وإن كان يأخذ اللبن مطلقا ، فهو بيع أيضا ، فإن صاحب اللبن يوفيه اللبن بخلاف الظئر ، فإنما هي تسقي الطفل ، وليس هذا داخلا فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر ؛ لأن الغرر تردد بين الوجود والعدم ، فنهى عن بيعه ؛ لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر ، والله حرم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل ، وذلك من الظلم الذي حرمه الله تعالى ، وهذا إنما يكون قمارا إذا كان أحد المتعاوضين يحصل له مال ، والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل ، فهذا الذي لا يجوز كما في بيع العبد الآبق ، والبعير الشارد ، وبيع حبل الحبلة ، فإن البائع يأخذ مال المشتري ، والمشتري قد يحصل له شيء وقد لا يحصل ، ولا يعرف قدر الحاصل ، فأما إذا كان شيئا معروفا بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة مثل منفعة الأرض والدابة ، ومثل لبن الظئر
[ ص: 731 ] المعتاد ، ولبن البهائم المعتاد ، ومثل الثمر والزرع المعتاد ، فهذا كله من باب واحد وهو جائز .
ثم إن حصل على الوجه المعتاد ، وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة ، وهو مثل وضع الجائحة في البيع ، ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من القبض في سائر البيوع .
فإن قيل : مورد عقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان ؛ ولهذا لا يصح استئجار الطعام ليأكله ، والماء ليشربه ، وأما
nindex.php?page=treesubj&link=12872إجارة الظئر ، فعلى المنفعة وهي : وضع الطفل في حجرها ، وإلقامه ثديها ، واللبن يدخل ضمنا وتبعا ، فهو كنقع البئر في إجارة الدار ، ويغتفر فيما دخل ضمنا وتبعا ما لا يغتفر في الأصول والمتبوعات .
قيل : الجواب عن هذا من وجوه .
أحدها : منع كون عقد الإجارة لا يرد إلا على منفعة ، فإن هذا ليس ثابتا بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإجماع ، بل الثابت عن الصحابة خلافه ، كما صح عن
عمر رضي الله عنه أنه قبل حديقة
nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن حضير ثلاث سنين ، وأخذ الأجرة فقضى بها دينه ، والحديقة : هي النخل ، فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها ، وهو مذهب أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولا يعلم له في الصحابة مخالف ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=13372أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب
أحمد ، واختيار شيخنا ، فقولكم : إن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منفعة غير مسلم ، ولا ثابت بالدليل ، وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل ، والماء للشرب ، وهذا من أفسد القياس ، فإن الخبز تذهب عينه ، ولا يستخلف مثله بخلاف اللبن ونقع البئر ، فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئا فشيئا ، كان بمنزلة المنافع .
يوضحه الوجه الثاني : وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوها فيجوز أن يقف الشجرة لينتفع أهل الوقف بثمراتها كما
[ ص: 732 ] يقف الأرض ؛ لينتفع أهل الوقف بغلتها ، ويجوز
nindex.php?page=treesubj&link=6417_23714إعارة الشجرة ، كما يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=23714_6417إعارة الظهر ،
nindex.php?page=treesubj&link=23714_6417وعارية الدار ، ومنيحة اللبن ، وهذا كله تبرع بنماء المال وفائدته ، فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه ، فهو بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها ، وبمنزلة من دفع شجرة إلى من يستثمرها ، وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها ، وبمنزلة من دفع شاته إلى من يشرب لبنها ، فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع ، سواء كان الأصل محبسا بالوقف ، أو غير محبس . ويدخل أيضا في عقود المشاركات ، فإنه إذا دفع شاة ، أو بقرة ، أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها صح على أصح الروايتين عن
أحمد ، فكذلك يدخل في العقود للإجارات .
يوضحه الوجه الثالث : وهو أن الأعيان نوعان : نوع لا يستخلف شيئا فشيئا ، بل إذا ذهب ذهب جملة ، ونوع يستخلف شيئا فشيئا ، كلما ذهب منه شيء خلفه شيء مثله ، فهذا رتبة وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تستخلف ، فينبغي أن ينظر في شبهه بأي النوعين ، فيلحق به ، ومعلوم أن شبهه بالمنافع أقوى ، فإلحاقه بها أولى .
يوضحه الوجه الرابع : وهو أن الله سبحانه نص في كتابه على إجارة الظئر ، وسمى ما تأخذه أجرا ، وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=6فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف ) [ الطلاق : 6 ] .
قال شيخنا : وإنما ظن الظان أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ، وليس الأمر كذلك ، بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله ، سواء كان عينا أو منفعة ، كما أن هذه العين هي التي توقف وتعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض يستوفيه المستأجر وبالعوض ، فلما كان لبن الظئر مستوفى مع بقاء الأصل جازت الإجارة عليه ، كما جازت على المنفعة ، وهذا محض القياس ، فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شيء ، وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء ، وأصلها باق .
[ ص: 733 ] ويوضحه الوجه الخامس : وهو أن الأصل في العقود وجوب الوفاء إلا ما حرمه الله ورسوله ، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، فلا يحرم من الشروط والعقود إلا ما حرمه الله ورسوله ، وليس مع المانعين نص بالتحريم البتة ، وإنما معهم قياس قد علم أن بين الأصل والفرع فيه من الفرق ما يمنع الإلحاق ، وأن القياس الذي مع من أجاز ذلك أقرب إلى مساواة الفرع لأصله ، وهذا ما لا حيلة فيه ، وبالله التوفيق .
يوضحه الوجه السادس : وهو أن الذين منعوا هذه الإجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع ، والمقصود بالعقد إنما هو اللبن ، وهو عين ، تمحلوا لجوازها أمرا يعلمون هم والمرضعة والمستأجر بطلانه ، فقالوا : العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها وإلقامه ثديها فقط ، واللبن يدخل تبعا ، والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك ، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصودا أصلا ، ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفا ولا حقيقة ولا شرعا ، ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها ، أو في مهده لاستحقت الأجرة ، ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد ، لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي ، ولو لم يكن لها لبن ، فهذا هو القياس الفاسد حقا ، والفقه البارد ، فكيف يقال : إن إجارة الظئر على خلاف القياس ، ويدعى أن هذا هو القياس الصحيح .
الوجه السابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى
nindex.php?page=treesubj&link=7342_30575منيحة العنز والشاة للبنها ، وحض على ذلك ، وذكر ثواب فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=7244_7247هبة [ ص: 734 ] المعدوم المجهول لا تصح ، وإنما هو عارية الشاة للانتفاع بلبنها كما يعيره الدابة لركوبها ، فهذا إباحة للانتفاع بدرها ، وكلاهما في الشرع واحد ، وما جاز أن يستوفى بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة ، فإن موردهما واحد ، وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر .
والوجه الثامن : ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15703حرب الكرماني في " مسائله " : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16287عباد بن عباد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة ، عن أبيه
nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين ، فدعا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه " غرماءه ، فقبلهم أرضه سنتين " ، وفيها الشجر والنخل ، وحدائق المدينة الغالب عليها النخل والأرض البيضاء فيها قليل ، فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها ، ومن ادعى أن ذلك خلاف الإجماع ، فمن عدم علمه ، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب ، فإن
عمر رضي الله عنه فعل ذلك
بالمدينة النبوية بمشهد
المهاجرين والأنصار وهي قصة في مظنة الاشتهار ، ولم يقابلها أحد بالإنكار ، بل تلقاها الصحابة بالتسليم والإقرار ، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله
عمر رضي الله عنه ، كما أنكر عليه
nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن حصين وغيره شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة ، وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محض القياس ، وأن المانعين منها لا بد لهم منها ، وأنهم يتحيلون عليها بحيل لا تجوز .
الوجه التاسع : أن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان وهو المغل الذي يستغله المستأجر ، وليس له مقصود في منفعة الأرض
[ ص: 735 ] غير ذلك ، وإن كان له قصد جرى في الانتفاع بغير الزرع ، فذلك تبع .
فإن قيل : المعقود عليه هو منفعة شق الأرض وبذرها وفلاحتها والعين تتولد من هذه المنفعة ، كما لو استأجر لحفر بئر ، فخرج منها الماء ، فالمعقود عليه هو نفس العمل لا الماء .
قيل : مستأجر الأرض ليس له مقصود في غير المغل ، والعمل وسيلة مقصودة لغيرها ، ليس له فيه منفعة ، بل هو تعب ومشقة ، وإنما مقصوده ما يحدثه الله من الحب بسقيه وعمله ، وهكذا مستأجر الشاة للبنها سواء مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيام عليها ، فلا فرق بينهما البتة إلا ما لا تناط به الأحكام من الفروق الملغاة ، وتنظيركم بالاستئجار لحفر البئر تنظير فاسد ، بل نظير حفر البئر أن يستأجر أكارا لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها ، ولا ريب أن تنظير إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محض القياس ، وهو كما تقدم أصح من التنظير بإجارة الخبز للأكل .
يوضحه الوجه العاشر : وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظم بكثير من الغرر الذي في إجارة الحيوان للبنه ، فإن الآفات والموانع التي تعرض للزرع أكثر من آفات اللبن ، فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض ؛ فلأن يغتفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى .
فَصْلٌ .
وَأَمَّا إِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=6066_6114_6120_6117أَجَّرَهُ الشَّاةَ أَوِ الْبَقَرَةَ أَوِ النَّاقَةَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِأَخْذِ لَبَنِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، فَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ الْجُمْهُورُ ؛ وَاخْتَارَ شَيْخُنَا جَوَازَهُ ، وَحَكَاهُ قَوْلًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَهُ فِيهَا مُصَنَّفٌ مُفْرَدٌ ، قَالَ : إِذَا اسْتَأْجَرَ غَنَمًا أَوْ بَقَرًا ، أَوْ نُوقًا أَيَّامَ اللَّبَنِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ ، وَعَلَفُهَا عَلَى الْمَالِكِ ، أَوْ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ مَعَ عَلَفِهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ اللَّبَنَ ، جَازَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي الظِّئْرِ
قَالَ : وَهَذَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ ، وَيُشْبِهُ الْإِجَارَةَ ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْإِجَارَةِ ، لَكِنْ إِذَا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ بِعَلَفِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقِيَامِهِ عَلَى الْغَنَمِ ، فَإِنَّهُ يُشْبِهُ اسْتِئْجَارَ الشَّجَرِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَعْلِفُهَا ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي لَبَنًا مُقَدَّرًا ، فَهَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُ اللَّبَنَ مُطْلَقًا ، فَهُوَ بَيْعٌ أَيْضًا ، فَإِنَّ صَاحِبَ اللَّبَنِ يُوَفِّيهِ اللَّبَنَ بِخِلَافِ الظِّئْرِ ، فَإِنَّمَا هِيَ تَسْقِي الطِّفْلَ ، وَلَيْسَ هَذَا دَاخِلًا فِيمَا نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، فَنَهَى عَنْ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ الْمَيْسِرُ ، وَاللَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ قِمَارًا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ مَالٌ ، وَالْآخَرُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ ، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ ، فَإِنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ مَالَ الْمُشْتَرِي ، وَالْمُشْتَرِي قَدْ يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ، وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْحَاصِلِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ شَيْئًا مَعْرُوفًا بِالْعَادَةِ كَمَنَافِعِ الْأَعْيَانِ بِالْإِجَارَةِ مِثْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالدَّابَّةِ ، وَمِثْلِ لَبَنِ الظِّئْرِ
[ ص: 731 ] الْمُعْتَادِ ، وَلَبَنِ الْبَهَائِمِ الْمُعْتَادِ ، وَمِثْلِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ الْمُعْتَادِ ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَائِزٌ .
ثُمَّ إِنْ حَصَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ، وَإِلَّا حَطَّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ ، وَهُوَ مِثْلُ وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْبَيْعِ ، وَمِثْلُ مَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْقَبْضِ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَوْرِدُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إِنَّمَا هُوَ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ ، وَالْمَاءِ لِيَشْرَبَهُ ، وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=12872إِجَارَةُ الظِّئْرِ ، فَعَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ : وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا ، وَإِلْقَامُهُ ثَدْيَهَا ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا ، فَهُوَ كَنَقْعِ الْبِئْرِ فِي إِجَارَةِ الدَّارِ ، وَيُغْتَفَرُ فِيمَا دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأُصُولِ وَالْمَتْبُوعَاتِ .
قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : مَنْعُ كَوْنِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ وَلَا بِالسُّنَّةِ وَلَا بِالْإِجْمَاعِ ، بَلِ الثَّابِتُ عَنِ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ ، كَمَا صَحَّ عَنْ
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَبِلَ حَدِيقَةَ
nindex.php?page=showalam&ids=168أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ فَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ ، وَالْحَدِيقَةُ : هِيَ النَّخْلُ ، فَهَذِهِ إِجَارَةُ الشَّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13372أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عُقَيْلٍ مِنْ أَصْحَابِ
أحمد ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا ، فَقَوْلُكُمْ : إِنَّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْفَعَةً غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَلَا ثَابِتٍ بِالدَّلِيلِ ، وَغَايَةُ مَا مَعَكُمْ قِيَاسُ مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى إِجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ ، وَالْمَاءِ لِلشُّرْبِ ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّ الْخُبْزَ تَذْهَبُ عَيْنُهُ ، وَلَا يُسْتَخْلَفُ مِثْلُهُ بِخِلَافِ اللَّبَنِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُسْتَخْلَفُ وَيُحْدَثُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ الثَّمَرَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَةِ وَنَحْوِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الشَّجَرَةَ لِيَنْتَفِعَ أَهْلُ الْوَقْفِ بِثَمَرَاتِهَا كَمَا
[ ص: 732 ] يَقِفُ الْأَرْضَ ؛ لِيَنْتَفِعَ أَهْلُ الْوَقْفِ بِغَلَّتِهَا ، وَيَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=6417_23714إِعَارَةُ الشَّجَرَةِ ، كَمَا يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=23714_6417إِعَارَةُ الظَّهْرِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=23714_6417وَعَارِيَّةُ الدَّارِ ، وَمَنِيحَةُ اللَّبَنِ ، وَهَذَا كُلُّهُ تَبَرُّعٌ بِنَمَاءِ الْمَالِ وَفَائِدَتِهِ ، فَإِنَّ مَنْ دَفَعَ عَقَارَهُ إِلَى مَنْ يَسْكُنُهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إِلَى مَنْ يَرْكَبُهَا ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَجَرَةً إِلَى مَنْ يَسْتَثْمِرُهَا ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ أَرْضَهُ إِلَى مَنْ يَزْرَعُهَا ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَاتَهُ إِلَى مَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا ، فَهَذِهِ الْفَوَائِدُ تَدْخُلُ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ مُحَبَّسًا بِالْوَقْفِ ، أَوْ غَيْرَ مُحَبَّسٍ . وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي عُقُودِ الْمُشَارَكَاتِ ، فَإِنَّهُ إِذَا دَفَعَ شَاةً ، أَوْ بَقَرَةً ، أَوْ نَاقَةً إِلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا صَحَّ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أحمد ، فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْعُقُودِ لِلْإِجَارَاتِ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَعْيَانَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، بَلْ إِذَا ذَهَبَ ذَهَبَ جُمْلَةً ، وَنَوْعٌ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، كُلَّمَا ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلَفَهُ شَيْءٌ مِثْلُهُ ، فَهَذَا رُتْبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ الْمَنَافِعِ وَبَيْنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تُسْتَخْلَفُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي شَبَهِهِ بِأَيِّ النَّوْعَيْنِ ، فَيُلْحَقَ بِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَبَهَهُ بِالْمَنَافِعِ أَقْوَى ، فَإِلْحَاقُهُ بِهَا أَوْلَى .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى إِجَارَةِ الظِّئْرِ ، وَسَمَّى مَا تَأْخُذُهُ أَجْرًا ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِجَارَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي شَرِيعَتِنَا إِلَّا إِجَارَةَ الظِّئْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=6فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ) [ الطَّلَاقِ : 6 ] .
قَالَ شَيْخُنَا : وَإِنَّمَا ظَنُّ الظَّانِّ أَنَّهَا خِلَافُ الْقِيَاسِ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلِ الْإِجَارَةُ تَكُونُ عَلَى كُلِّ مَا يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ هِيَ الَّتِي تُوقَفُ وَتُعَارُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَعِيرُ بِلَا عِوَضٍ يَسْتَوْفِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ وَبِالْعِوَضِ ، فَلَمَّا كَانَ لَبَنُ الظِّئْرِ مُسْتَوْفًى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ جَازَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ ، كَمَا جَازَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ يُحْدِثُهَا اللَّهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَأَصْلُهَا بَاقٍ كَمَا يُحْدِثُ اللَّهُ الْمَنَافِعَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَأَصْلُهَا بَاقٍ .
[ ص: 733 ] وَيُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ، فَلَا يَحْرُمُ مِنَ الشُّرُوطِ وَالْعُقُودِ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَانِعِينَ نَصٌّ بِالتَّحْرِيمِ الْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا مَعَهُمْ قِيَاسٌ قَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهِ مِنَ الْفَرْقِ مَا يَمْنَعُ الْإِلْحَاقَ ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي مَعَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى مُسَاوَاةِ الْفَرْعِ لِأَصْلِهِ ، وَهَذَا مَا لَا حِيلَةَ فِيهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسُ : وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَمَّا رَأَوْا إِجَارَةَ الظِّئْرِ ثَابِتَةً بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ إِنَّمَا هُوَ اللَّبَنُ ، وَهُوَ عَيْنٌ ، تَمَحَّلُوا لِجَوَازِهَا أَمْرًا يَعْلَمُونَ هُمْ وَالْمُرْضِعَةُ وَالْمُسْتَأْجِرُ بُطْلَانَهُ ، فَقَالُوا : الْعَقْدُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى وَضْعِهَا الطِّفْلَ فِي حِجْرِهَا وَإِلْقَامِهِ ثَدْيَهَا فَقَطْ ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ تَبَعًا ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَالْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَأَنَّ وَضْعَ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلًا ، وَلَا وَرْدَ عَلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَا عُرْفًا وَلَا حَقِيقَةً وَلَا شَرْعًا ، وَلَوْ أَرْضَعَتِ الطِّفْلَ وَهُوَ فِي حِجْرِ غَيْرِهَا ، أَوْ فِي مَهْدِهِ لَاسْتَحَقَّتِ الْأُجْرَةَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ إِلْقَامَ الثَّدْيِ الْمُجَرَّدِ ، لَاسْتُؤْجِرَ لَهُ كُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا ثَدْيٌ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ حَقًّا ، وَالْفِقْهُ الْبَارِدُ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ إِجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَيُدَّعَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=7342_30575مَنِيحَةِ الْعَنْزِ وَالشَّاةِ لِلَبَنِهَا ، وَحَضَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَذَكَرَ ثَوَابَ فَاعِلِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=7244_7247هِبَةَ [ ص: 734 ] الْمَعْدُومِ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَارِيَّةُ الشَّاةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا كَمَا يُعِيرُهُ الدَّابَّةَ لِرُكُوبِهَا ، فَهَذَا إِبَاحَةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِدَرِّهَا ، وَكِلَاهُمَا فِي الشَّرْعِ وَاحِدٌ ، وَمَا جَازَ أَنْ يُسْتَوْفَى بِالْعَارِيَّةِ جَازَ أَنْ يُسْتَوْفَى بِالْإِجَارَةِ ، فَإِنَّ مَوْرِدَهُمَا وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّبَرُّعِ بِهَذَا وَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْآخَرِ .
وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ : مَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15703حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي " مَسَائِلِهِ " : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=16000سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=16287عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17245هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=168أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ ، فَدَعَا
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " غُرَمَاءَهُ ، فَقَبَلَهُمْ أَرْضَهُ سَنَتَيْنِ " ، وَفِيهَا الشَّجَرُ وَالنَّخْلُ ، وَحَدَائِقُ الْمَدِينَةِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا النَّخْلُ وَالْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ فِيهَا قَلِيلٌ ، فَهَذَا إِجَارَةُ الشَّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهَا ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، فَمِنْ عَدَمِ عِلْمِهِ ، بَلِ ادَّعَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَقْرَبُ ، فَإِنَّ
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِمَشْهَدِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهِيَ قِصَّةٌ فِي مَظِنَّةِ الِاشْتِهَارِ ، وَلَمْ يُقَابِلْهَا أَحَدٌ بِالْإِنْكَارِ ، بَلْ تَلَقَّاهَا الصَّحَابَةُ بِالتَّسْلِيمِ وَالْإِقْرَارِ ، وَقَدْ كَانُوا يُنْكِرُونَ مَا هُوَ دُونَهَا وَإِنْ فَعَلَهُ
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=40عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُ شَأْنَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ ، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَحْضُ الْقِيَاسِ ، وَأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْهَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا ، وَأَنَّهُمْ يَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهَا بِحِيَلٍ لَا تَجُوزُ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ هُوَ عَيْنٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَهُوَ الْمَغَلُّ الَّذِي يَسْتَغِلُّهُ الْمُسْتَأْجِرُ ، وَلَيْسَ لَهُ مَقْصُودٌ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ
[ ص: 735 ] غَيْرَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قَصْدٌ جَرَى فِي الِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ الزَّرْعِ ، فَذَلِكَ تَبَعٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَةُ شَقِّ الْأَرْضِ وَبَذْرِهَا وَفِلَاحَتِهَا وَالْعَيْنُ تَتَوَلَّدُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحَفْرِ بِئْرٍ ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْمَاءُ ، فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ نَفْسُ الْعَمَلِ لَا الْمَاءُ .
قِيلَ : مُسْتَأْجِرُ الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ مَقْصُودٌ فِي غَيْرِ الْمَغَلِّ ، وَالْعَمَلُ وَسِيلَةٌ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا ، لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ، بَلْ هُوَ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ مِنَ الْحَبِّ بِسَقْيِهِ وَعَمَلِهِ ، وَهَكَذَا مُسْتَأْجِرُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا سَوَاءٌ مَقْصُودُهُ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ مِنْ لَبَنِهَا بِعَلْفِهَا وَحِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ إِلَّا مَا لَا تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنَ الْفُرُوقِ الْمُلْغَاةِ ، وَتَنْظِيرُكُمْ بِالِاسْتِئْجَارِ لِحَفْرِ الْبِئْرِ تَنْظِيرٌ فَاسِدٌ ، بَلْ نَظِيرُ حَفْرِ الْبِئْرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَكَّارًا لِحَرْثِ أَرْضِهِ وَيَبْذُرَهَا وَيَسْقِيَهَا ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَنْظِيرَ إِجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ لِمَغَلِّهَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ أَصَحُّ مِنَ التَّنْظِيرِ بِإِجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : وَهُوَ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ الَّذِي فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ لِحُصُولِ مَغَلِّهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي فِي إِجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ ، فَإِنَّ الْآفَاتِ وَالْمَوَانِعَ الَّتِي تَعْرِضُ لِلزَّرْعِ أَكْثَرُ مِنْ آفَاتِ اللَّبَنِ ، فَإِذَا اغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ ؛ فَلَأَنْ يُغْتَفَرَ فِي إِجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِلَبَنِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى .