الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أن الإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ، ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها ، فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ، ثم يعرض ههنا حالتان :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداهما : أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان .

                                                                                                                                                                                                                                            والأخرى : أن لا يتمنى ذلك ، بل يتمنى حصول مثلها له .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول فهو الحسد المذموم ؛ لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه : الإحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين ، وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان ، فيكون هذا اعتراضا على الله ، وقدحا في حكمته ، وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ، ويزيل عن قلبه نور الإيمان ، وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين ، فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا ، فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة ، ويقلب كل ذلك إلى أضدادها ؛ فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان ، أما على مذهب أهل السنة والجماعة ، فهو أنه تعالى فعال لما يريد : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] فلا اعتراض عليه في فعله ، ولا مجال لأحد في منازعته ، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وإذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة ، وطرق الاعتراضات مردودة . وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود ؛ لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ؛ ولهذا المعنى قال : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) [ الشورى : 27 ] وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه ؛ ولهذا المعنى حكى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزة أنه قال : " من استسلم لقضائي ، وصبر على بلائي ، وشكر لنعمائي ، كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ، ومن لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر لنعمائي ، فليطلب ربا سواي " . فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الإنسان ، ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، ولا يسوم على سوم أخيه ، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها ، فإن الله هو رازقها " . والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد . أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له ، فمن الناس من جوز ذلك ، إلا أن المحققين قالوا : هذا أيضا لا يجوز ؛ لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ، ومضرة عليه في الدنيا ؛ فلهذا السبب قال المحققون : إنه لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، وزوجة مثل زوجة فلان ، بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي . وإذا تأمل الإنسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكره الله في القرآن تعليما لعباده ، وهو قوله : ( آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) [ البقرة : 201 ] وروى قتادة عن الحسن أنه قال : لا يتمن أحد المال ، فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة ، وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية : ( واسألوا الله من فضله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية