( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا    ) 
قوله تعالى : ( ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا    ) 
وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود  أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالإيمان  وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك ، ولقائل أن يقول : كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته ، حتى يكون إيمانهم استدلاليا ، فلما أمرهم بذلك الإيمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالإيمان على سبيل التقليد . 
والجواب عنه : أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب ، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة ، ألا ترى أنه قال في الآية الأولى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب    ) [ النساء : 44 ] ولم يقل : ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب ؛ لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة ، فلما قال في هذه الآية : ( ياأيها الذين أوتوا الكتاب    ) علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة ، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد    - صلى الله عليه وسلم - لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل ؛ ولهذا قال تعالى : ( مصدقا لما معكم    ) أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد    - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد ، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالإيمان بمحمد    - عليه الصلاة والسلام - جزما ، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك . 
المسألة الثانية : الطمس : المحو ، تقول العرب في وصف المفازة : إنها طامسة الأعلام ، وطمس الطريق وطمس إذا درس ، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله ، وطمست الريح الأثر إذا محته ، وطمست الكتاب محوته ، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين : 
أحدهما : حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه . 
والثاني : حمل اللفظ على مجازه . 
أما القول الأول : فهو أن المراد من طمس الوجوه  محو تخطيط صورها ، فإن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه الحواس ، فإذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا ، ومعنى قوله : ( فنردها على أدبارها    ) رد الوجوه إلى ناحية القفا ، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة ؛ لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة ، فإن هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه ، ومما يقرره قوله تعالى : ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره    ) [ الانشقاق : 10 ] فإنه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب   [ ص: 98 ] من وراء ظهورهم ؛ لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان . 
فأما القول الثاني : فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ، ثم ذكروا فيه وجوها : 
الأول : قال الحسن    : المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها ، أي على ضلالتها ، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ، ونظيره قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه    ) [ الأنفال : 24 ] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، فقدامه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات ، فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه ، كما قال تعالى في صفتهم : ( ناكسو رءوسهم    ) [ السجدة : 12 ] . 
الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير ، وبالوجوه : رؤساؤهم ووجهاؤهم ، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإدبار والمذلة . 
الثالث : قال  عبد الرحمن بن زيد    : هذا الوعيد قد لحق اليهود  ومضى ، وتأول ذلك في إجلاء قريظة  والنضير  إلى الشام  ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات  وأريحاء  من أرض الشام  ، كما جاءوا منها بدءا ، وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين : 
أحدهما : تقبيح صورتهم يقال : طمس الله صورته كقوله : قبح الله وجهه . 
والثاني : إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها . 
فإن قيل : إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني ، فلا إشكال البتة ، وإن فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره ، فالجواب عنه من وجوه : 
الأول : أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه ، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال : ( أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت    ) وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله : ( أو نلعنهم    ) وظاهره ليس هو المسخ . 
الثاني : قوله تعالى : ( آمنوا    ) تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم ، فلزم أن يكون قوله : ( من قبل أن نطمس وجوها    ) واقعا في الآخرة ، فصار التقدير : آمنوا من قبل أن يجيء وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت . 
الثالث : أنا قد بينا أن قوله : ( ياأيها الذين أوتوا الكتاب    ) خطاب مع جميع علمائهم ، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالإيمان ، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن  عبد الله بن سلام  وجمع كثير من أصحابه ، ففات المشروط بفوات الشرط ، ويقال : لما نزلت هذه الآية أتى  عبد الله بن سلام  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يأتي أهله فأسلم ، وقال : يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي   . 
الرابع : أنه تعالى لم يقل : من قبل أن نطمس وجوهكم ، بل قال : ( من قبل أن نطمس وجوها    ) وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود  أو مسخ قبل قيام الساعة ، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيانهم ، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله : ( أو نلعنهم    ) فذكرهم على سبيل المغايبة ، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب ، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					