الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال : ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد ، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) [ الممتحنة : 1 ] والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين ، لأن ذلك هو الأمر الذي به يتقرب إلى الله تعالى ، ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة ، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة ، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ) قال أبو بكر الرازي : التقدير حتى يسلموا ويهاجروا ، لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الإسلام ، فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الإسلام ، وأنهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة ، ونظيره قوله : ( ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) [ الأنفال : 72 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال صلى الله عليه وسلم : " أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك " فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة ، ثم نسخ فرض الهجرة . عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين ، قال صلى الله عليه وسلم : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " وقال المحققون : الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته ، ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر الله تعالى لفظا عاما يتناول الكل فقال : ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) فإنه تعالى لم يقل : حتى يهاجروا عن الكفر ، بل قال : ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر ، ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة ، بل قيده بكونه في سبيل الله ، فإنه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا ، إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية