الحجة السابعة عشرة : لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره ، فحينئذ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعا وتركا للاتباع ، وذلك حرام ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : اتبعوا ولا تبتدعوا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : وأحسن الهدي هدي محمد  ، وشر الأمور محدثاتها   . 
الحجة الثامنة عشرة : الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل ، والأول باطل بالإجماع ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة ، فتعين   [ ص: 160 ] الثاني ، فنقول : الصلاة بدون الفاتحة  توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر ، فوجب أن لا يجوز المصير إليه ؛ لأنه قبيح في العرف ، فيكون قبيحا في الشرع . 
واحتج  أبو حنيفة  بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن    ) وأما الخبر فما روى  أبو عثمان النهدي  عن  أبي هريرة  أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لا صلاة إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب   . 
والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا ؛ وذلك لأن قوله : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن    ) أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة ، فنقول : المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة ، أو غير الفاتحة ، أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها ، والأول يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب ، والثاني يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها ، وهو باطل بالإجماع ، والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها ، وذلك باطل بالإجماع ؛ لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها ، وسلم  أبو حنيفة  أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز . 
واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين ، فهي متيسرة للكل ، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون ، وحينئذ لا تكون متيسرة للكل . 
وعن الثاني أنه معارض بما نقل عن  أبي هريرة  أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب    . وأيضا لم لا يجوز أن يقال : المراد من قوله : لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ، وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا ؛ لأنه أحوط ، ولأنه أفضل ، والله أعلم . 
المسألة الثالثة : لما كان قول  أبي حنيفة  وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة  ، فقال  أبو حنيفة    : إذا قرأ آية واحدة كفت ، مثل قوله : " الم " ، و " حم " ، " والطور    " ، و " مدهامتان    " ، وقال أبو يوسف  ومحمد    : لا بد من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين . 
المسألة الرابعة : قال  الشافعي  رضي الله عنه : بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة  ، وتجب قراءتها مع الفاتحة ، وقال مالك   والأوزاعي  رضي الله تعالى عنهما : إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل ، ولا يقرأ لا سرا ولا جهرا إلا في قيام شهر رمضان ، فإنه يقرؤها ، وأما  أبو حنيفة  فلم ينص عليه ، وإنما قال : يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويسر بها ، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا ، قال يعلى    : سألت محمد بن الحسن  عن بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : ما بين الدفتين قرآن ، قال : قلت : فلم تسره ؟ قال : فلم يجبني ، وقال الكرخي    : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة ، وقال بعض فقهاء الحنفية    : تورع  أبو حنيفة  وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة ؛ لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم ، فالأولى السكوت عنه . 
				
						
						
