( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين )
قوله تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لا شبهة في أن قوله : ( أولئك الذين هدى الله ) هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء ، ولا شك في أن قوله : ( فبهداهم اقتده ) أمر لمحمد - عليه الصلاة والسلام - ، وإنما الكلام في تعيين الشيء محمدا أن يقتدي فيه بهم ، فمن الناس من قال : المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات ، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم ، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلا على أن الذي أمر الله ، وقال آخرون : إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله : ( شرع من قبلنا يلزمنا ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) .
ثم قال في هذه الآية : ( أولئك الذين هدى الله ) أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد ( فبهداهم اقتده ) أي اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب . وقال آخرون : اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل . قال القاضي : يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء - عليهم السلام - المتقدمين في شرائعهم لوجوه :
أحدها : أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأمورا بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة .
وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل .
[ ص: 58 ] وإذا ثبت هذا فنقول : دليل ثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات لا في غير تلك الأوقات ، فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط ، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات ؟
وثالثها : أن كونه - عليه الصلاة والسلام - متبعا لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم .
والجواب عن الأول : أن قوله : ( فبهداهم اقتده ) يتناول الكل . فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم . فنقول : ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة .
وعن الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - لو كان مأمورا بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة ؛ لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب ؛ وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلا في ذلك الحكم ، ولا تعلق له بمن قبله البتة ، والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني ، وبهذا التقرير يسقط السؤال .
وعن الثالث : أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم ، بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا .
المسألة الثانية : احتج العلماء بهذه الآية على أن ، وتقريره : هو أنا بينا أن خصال الكمال ، وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع الأنبياء - عليهم السلام - فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ، ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين ، وموسى - عليه السلام - كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، كانوا أصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق ، ويونس صاحب التضرع ، فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمدا - عليه الصلاة والسلام - بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله تعالى بذلك ، امتنع أن يقال : إنه قصر في تحصيلها ، فثبت أنه حصلها ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرقا فيهم بأسرهم ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إنه أفضل منهم بكليتهم . والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال الواحدي : قوله : ( هدى الله ) دليل على أنهم مخصوصون بالهدى ؛ لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله : ( أولئك الذين هدى الله ) فائدة تخصيص .
المسألة الرابعة : قال الواحدي : الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله . روى اللحياني عن الكسائي أنه قال : يقال : لي بك قدوة وقدوة .
[ ص: 59 ] المسألة الخامسة : قال الواحدي : قرأ ابن عامر " اقتده " بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء ، والباقون " اقتده " ساكنة الهاء ، غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف ، والباقون يثبتونها في الوصل والوقف .
والحاصل : أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف . قال الواحدي : الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل ؛ لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء ، وذلك لأن الهاء للوقف ، كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن ، فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل ، كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف ، فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا . وأما قراءة ابن عامر ؛ فقال أبو بكر : هذا غلط ؛ لأن هذه الهاء هاء وقف ، فلا تعرب في حال من الأحوال ، وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها . قال ومجاهد أبو علي الفارسي : ليس بغلط ، ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر ، والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء ، فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه ، وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء ، لأن هاء الضمير تسكن في الوقف ؛ كما تقول : اشتره . والله أعلم .
أما قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا ) فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء - عليهم السلام - المتقدمين ، وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة . لا جرم اقتدى بهم في ذلك ، فقال : ( لا أسألكم عليه أجرا ) ولا أطلب منكم مالا ولا جعلا ( إن هو ) يعني القرآن ( إلا ذكرى للعالمين ) يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله : ( إن هو إلا ذكرى للعالمين ) يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم . والله أعلم .