الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمورا خمسة : أولها : قوله : ( ألا تشركوا به شيئا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه ، وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى ، وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) [ الأنعام : 74 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والطائفة الثانية : من المشركين عبدة الكواكب ، وهم الذين حكى الله عنهم ، أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله : ( لا أحب الآفلين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والطائفة الثالثة : الذين حكى الله تعالى عنهم : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) [ الأنعام : 100 ] وهم القائلون بيزدان وأهرمن .

                                                                                                                                                                                                                                            والطائفة الرابعة : الذين جعلوا لله بنين وبنات، وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق ، فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف . قال هاهنا : ( ألا تشركوا به شيئا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني من الأشياء التي أوجبها هاهنا قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) وإنما ثنى بهذا التكليف ؛ لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ، ويتلوها نعمة الوالدين ؛ لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان ، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث : قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد، وقوله : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) [ الإسراء : 31 ] والمراد منه النهي عن الوأد، إذ كانوا يدفنون البنات أحياء ، بعضهم للغيرة ، وبعضهم خوف الفقر ، وهو السبب الغالب ، فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله : ( نحن نرزقكم وإياهم )؛ لأنه تعالى إذا كان متكفلا برزق الوالد والولد ، فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله ، فكذلك القول في حال الولد ، قال شمر : أملق لازم ومتعد . يقال : أملق الرجل ، فهو مملق ، إذا افتقر ، فهذا لازم ، وأملق الدهر ما عنده ، إذا أفسده ، والإملاق الفساد . [ ص: 191 ] والنوع الرابع : قوله : ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) قال ابن عباس : كانوا يكرهون الزنا علانية ، ويفعلون ذلك سرا ، فنهاهم الله عن الزنا علانية وسرا ، والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين ، بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام . والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضا ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل ، وفي قوله : ( ما ظهر منها وما بطن ) دقيقة ، وهي : أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته ، ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس ، وذلك باطل ؛ لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعا من عقاب الله ونحوه ، فإنه يخشى عليه من الكفر ، ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا ، دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيما لأمر الله تعالى وخوفا من عذابه ورغبة في عبوديته .

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الخامس : قوله : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين : إحداهما : أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم ، كقوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) والثانية : أنه تعالى أراد أن يستثني منه ، ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( إلا بالحق ) أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم يصدر منها . والحديث أيضا موافق له وهو قوله عليه السلام : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " والقرآن دل على سبب رابع ، وهو قوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) [ المائدة : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والحاصل : أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل . ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول ، فقال : ( ذلكم وصاكم به ) لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة ، وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ، ثم أتبعه بقوله : ( لعلكم تعقلون ) أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ، ومنافعها في الدين والدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية