النوع الرابع : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) قال
الفراء : معنى أخاف أعلم . والأكثرون على أنه محمول على ظاهره ، والقول الأول إنما يصح لو كان
إبراهيم - عليه السلام - عالما بأن أباه سيموت على ذلك الكفر ، وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ، ويجوز أن يصر فيموت على الكفر ، فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك كان خائفا لا قاطعا ، واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفا إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه ، كما يقال أنا خائف على ولدي ، أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45فتكون للشيطان وليا ) فذكروا في الولي وجوها :
أحدها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار ، والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز ، وإن لم يجز حمله على الولاية الحقيقية لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=67الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [ الزخرف : 67 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=25ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) [ العنكبوت : 25 ] وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) [ إبراهيم : 22 ] .
واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة ، أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط .
وثانيها : أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير مواليا للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=119ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) [ النساء : 119 ] .
وثالثها : وليا أي تاليا للشيطان تليه ، كما يسمى المطر الذي يأتي تاليا وليا . فإن قيل : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) يقتضي أن تكون
nindex.php?page=treesubj&link=30464ولاية الشيطان أسوأ حالا من العذاب نفسه وأعظم ، فما السبب لذلك ؟
والجواب : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29710رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال :
[ ص: 194 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : 72 ] فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم . واعلم أن
إبراهيم - عليه السلام - رتب هذا الكلام في غاية الحسن ؛ لأنه نبه أولا على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال ، وترك التقليد ، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه - عليه السلام - أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق ، فإن قوله في مقدمة كل كلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45ياأبت ) دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب ، وختم الكلام بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45إني أخاف ) وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه :
أحدها : قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وبالوالدين إحسانا ) [ البقرة : 83 ]
nindex.php?page=treesubj&link=30495_30502_29532والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نورا على نور .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20077_32022الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقا لطيفا يورد الكلام لا على سبيل العنف ؛ لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء .
وثالثها : ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة أنه قال - عليه السلام - : " أوحى الله إلى
إبراهيم - عليه السلام - أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري " والله أعلم .
النَّوْعُ الرَّابِعُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ) قَالَ
الْفَرَّاءُ : مَعْنَى أَخَافُ أَعْلَمُ . وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ
إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِأَنَّ أَبَاهُ سَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ ، وَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ فَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصِرَّ فَيَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ خَائِفًا لَا قَاطِعًا ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَظُنُّ وُصُولَ الضَّرَرِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى خَائِفًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ الضَّرَرِ إِلَيْهِ تَأَلُّمُ قَلْبِهِ ، كَمَا يُقَالُ أَنَا خَائِفٌ عَلَى وَلَدِي ، أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ) فَذَكَرُوا فِي الْوَلِيِّ وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْجَبَ عَذَابَ اللَّهِ كَانَ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي النَّارِ ، وَالْوِلَايَةُ سَبَبٌ لِلْمَعِيَّةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازٌ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=67الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) [ الزُّخْرُفِ : 67 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=25ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) [ الْعَنْكَبُوتِ : 25 ] وَحَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ) [ إِبْرَاهِيمَ : 22 ] .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ عَذَابَ الْآخِرَةِ ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابَ الدُّنْيَا فَالْإِشْكَالُ سَاقِطٌ .
وَثَانِيهَا : أَنْ يُحْمَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْخِذْلَانِ أَيْ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ خِذْلَانُ اللَّهِ فَتَصِيرَ مُوَالِيًا لِلشَّيْطَانِ وَيَبْرَأَ اللَّهُ مِنْكَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=119وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ) [ النِّسَاءِ : 119 ] .
وَثَالِثُهَا : وَلِيًّا أَيْ تَالِيًا لِلشَّيْطَانِ تَلِيهِ ، كَمَا يُسَمَّى الْمَطَرُ الَّذِي يَأْتِي تَالِيًا وَلِيًّا . فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ) يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=30464وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعَذَابِ نَفْسِهِ وَأَعْظَمَ ، فَمَا السَّبَبُ لِذَلِكَ ؟
وَالْجَوَابُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29710رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ :
[ ص: 194 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ التَّوْبَةِ : 72 ] فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي هِيَ فِي مُقَابَلَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ أَكْبَرَ مِنَ الْعَذَابِ نَفْسِهِ وَأَعْظَمَ . وَاعْلَمْ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَتَّبَ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ؛ لِأَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَتَرْكِ التَّقْلِيدِ ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي الْعُقُولِ ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْوَعِيدِ الزَّاجِرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي ثُمَّ إِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ الْحَسَنَ مَقْرُونًا بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي مُقَدِّمَةِ كُلِّ كَلَامٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45يَاأَبَتِ ) دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الْحُبِّ وَالرَّغْبَةِ فِي صَوْنِهِ عَنِ الْعِقَابِ وَإِرْشَادِهِ إِلَى الصَّوَابِ ، وَخَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=45إِنِّي أَخَافُ ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَصَالِحِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ الْبَقَرَةِ : 83 ]
nindex.php?page=treesubj&link=30495_30502_29532وَالْإِرْشَادُ إِلَى الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَدَبِ وَالرِّفْقِ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20077_32022الْهَادِيَ إِلَى الْحَقِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَفِيقًا لَطِيفًا يُورِدُ الْكَلَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ ؛ لِأَنَّ إِيرَادَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ يَصِيرُ كَالسَّبَبِ فِي إِعْرَاضِ الْمُسْتَمِعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيًا فِي الْإِغْوَاءِ .
وَثَالِثُهَا : مَا رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : " أَوْحَى اللَّهُ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّكَ خَلِيلِي فَحَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ تَدْخُلْ مَدَاخِلَ الْأَبْرَارِ فَإِنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي وَأَنْ أُسْكِنَهُ حَظِيرَةَ قُدْسِي وَأُدْنِيَهُ مِنْ جِوَارِي " وَاللَّهُ أَعْلَمُ .