المسألة التاسعة : في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) وجهان :
أحدهما : التقديم والتأخير أي
nindex.php?page=treesubj&link=29485_29703أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به .
وثانيهما : أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال : أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته ، وقرئ خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه ، والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه ، وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51قال فما بال القرون الأولى ) فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوها :
أحدها : أن
موسى عليه السلام لما قرر على
فرعون أمر المبدأ والمعاد قال
فرعون : إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51فما بال القرون الأولى ) ما أثبتوه وتركوه ؟ فكان
موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على
nindex.php?page=treesubj&link=29426إثبات الصانع قدح
فرعون في تلك الدلالة بقوله : إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=31913_32022موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=48إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) فقال
فرعون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51فما بال القرون الأولى ) فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا ؟
وثالثها : وهو الأظهر أن
فرعون لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=49فمن ربكما ياموسى ) فذكر
موسى عليه السلام دليلا ظاهرا وبرهانا باهرا على هذا المطلوب فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) فخاف
فرعون أن يزيد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق
فرعون ، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51فما بال القرون الأولى ) فلم يلتفت
موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52علمها عند ربي في كتاب ) ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها ، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا ) وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم ، ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52علمها عند ربي في كتاب ) فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب ؟ وتحقيقه هو أن
nindex.php?page=treesubj&link=28781علم الله تعالى صفته ، وصفة الشيء قائمة به ، فأما أن تكون صفة الشيء
[ ص: 59 ] حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين :
الأول : معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على
nindex.php?page=treesubj&link=28781_29442_18267أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52في كتاب ) يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا ، وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة ؟
الوجه الثاني : أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه ، وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52لا يضل ربي ولا ينسى ) .
المسألة الثانية : اختلفوا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52لا يضل ربي ولا ينسى ) فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه ، وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما ، ثم ذكروا وجوها :
أحدها : وهو الأحسن ما قاله
القفال : لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالما بكل المعلومات ، واللفظ الثاني وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52ولا ينسى ) دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير .
وثانيها : قال
مقاتل : لا يخطئ ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه .
وثالثها : قال
الحسن لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه .
ورابعها : قال
أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .
وخامسها : قال
ابن جرير لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صوابا ، وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة ، والتحقيق هو الأول .
المسألة الثالثة : أنه لما سأله عن الإله وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=49فمن ربكما ياموسى ) وكان ذلك مما سبيله الاستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى ، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب ، واعلم أن
موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة .
أولها : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الذي جعل لكم الأرض مهدا ) وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ
أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف " مهدا " والباقون قرءوا ( مهادا ) فيهما قال
أبو عبيدة : الذي أختاره ( مهادا ) وهو اسم ، والمهد اسم الفعل ، وقال غيره : المهد الاسم ، والمهاد الجمع ، كالفرش والفراش ، أجاب
أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل ، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشا يقال : مهد مهدا ومهادا وفرش فرشا وفراشا .
البحث الثاني : قال صاحب " الكشاف " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الذي جعل ) مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52ربي ) ، أو منصوب على المدح ، وهذا من مظانه ومجازه ، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبرا لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام
موسى عليه السلام ، ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ) على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
البحث الثالث :
nindex.php?page=treesubj&link=32411_32415_31756المراد من كون الأرض مهدا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع ، وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :
[ ص: 60 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [ البقرة : 22 ] .
وثانيها : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53وسلك لكم فيها سبلا ) قال صاحب " الكشاف " : سلك من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=42ما سلككم في سقر ) [ المدثر : 42 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=200كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) أي جعل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري .
وثالثها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53وأنزل من السماء ماء ) والكلام فيه قد مر في سورة البقرة .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ أَيْ
nindex.php?page=treesubj&link=29485_29703أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ .
وَثَانِيهِمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الشَّكْلَ وَالصُّورَةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْمَنْفَعَةِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ الشَّكْلَ الَّذِي يُطَابِقُ مَنْفَعَتَهُ وَمَصْلَحَتَهُ ، وَقُرِئَ خَلَقَهُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ إِعْطَائِهِ وَإِنْعَامِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ) فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ارْتِبَاطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ عَلَى
فِرْعَوْنَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ قَالَ
فِرْعَوْنُ : إِنْ كَانَ إِثْبَاتُ الْمَبْدَأِ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنَ الظُّهُورِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ) مَا أَثْبَتُوهُ وَتَرَكُوهُ ؟ فَكَانَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=29426إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَدَحَ
فِرْعَوْنُ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ : إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا فَعَارَضَ الْحُجَّةَ بِالتَّقْلِيدِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31913_32022مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَّدَ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=48إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) فَقَالَ
فِرْعَوْنُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ) فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا ؟
وَثَالِثُهَا : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ
فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=49فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى ) فَذَكَرَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلًا ظَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) فَخَافَ
فِرْعَوْنُ أَنْ يَزِيدَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْحُجَّةِ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ صِدْقُهُ وَفَسَادُ طَرِيقِ
فِرْعَوْنَ ، فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَأَنْ يَشْغَلَهُ بِالْحِكَايَاتِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=51فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ) فَلَمْ يَلْتَفِتْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ) وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضِي بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا أَشْتَغِلُ بِهَا ، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَتْمِيمِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ) وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي صِحَّةِ هَذَا النَّظْمِ ، ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ) فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الرَّبِّ كَيْفَ يَكُونُ فِي الْكِتَابِ ؟ وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28781عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَتُهُ ، وَصِفَةُ الشَّيْءِ قَائِمَةٌ بِهِ ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الشَّيْءِ
[ ص: 59 ] حَاصِلَةً فِي كِتَابٍ فَذَاكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ لِكَوْنِ مَا كَتَبَهُ فِيهِ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً لَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28781_29442_18267أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52فِي كِتَابٍ ) يُوهِمُ احْتِيَاجَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ يُوهِمُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَا سِيَّمَا لِلْكَافِرِ ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذِكْرُهُ مَعَ مُعَانِدٍ مِثْلِ فِرْعَوْنَ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ ؟
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَقَاءَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ كَبَقَاءِ الْمَكْتُوبِ فِي الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَأْكِيدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَسْرَارَهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَزُولُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ عِلْمِهِ ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُؤَكَّدٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ أَيْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : وَهُوَ الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ
الْقَفَّالُ : لَا يَضِلُّ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَمَعْرِفَتِهَا وَمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ ، فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ، وَاللَّفْظُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52وَلَا يَنْسَى ) دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ التَّغَيُّرِ .
وَثَانِيهَا : قَالَ
مُقَاتِلٌ : لَا يُخْطِئُ ذَلِكَ الْكِتَابَ رَبِّي وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ .
وَثَالِثُهَا : قَالَ
الْحَسَنُ لَا يُخْطِئُ وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ .
وَرَابِعُهَا : قَالَ
أَبُو عَمْرٍو أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ ، وَالْمَعْنَى لَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ .
وَخَامِسُهَا : قَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ لَا يُخْطِئُ فِي التَّدْبِيرِ فَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ كَوْنَهُ صَوَابًا ، وَإِذَا عَرَفَهُ لَا يَنْسَاهُ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَقَارِبَةٌ ، وَالتَّحْقِيقُ هُوَ الْأَوَّلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِلَهِ وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=49فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى ) وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الِاسْتِدْلَالُ أَجَابَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ مَعْنًى ، وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ شَأْنِ الْقُرُونِ الْأُولَى وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سَبِيلُهُ الْإِخْبَارُ وَلَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَكَلَهُ إِلَى عَالِمِ الْغُيُوبِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَالَةَ الْأُولَى وَهِيَ دَلَالَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَائِلَ خَاصَّةً وَهِيَ ثَلَاثَةٌ .
أَوَّلُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ) وَفِيهِ أَبْحَاثٌ :
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : قَرَأَ
أَهْلُ الْكُوفَةِ هَهُنَا وَفِي الزُّخْرُفِ " مَهْدًا " وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا ( مِهَادًا ) فِيهِمَا قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : الَّذِي أَخْتَارُهُ ( مِهَادًا ) وَهُوَ اسْمٌ ، وَالْمَهْدُ اسْمُ الْفِعْلِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : الْمَهْدُ الِاسْمُ ، وَالْمِهَادُ الْجَمْعُ ، كَالْفَرْشِ وَالْفِرَاشِ ، أَجَابَ
أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ وَالْفُرُشُ فِعْلٌ ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ هُمَا مَصْدَرَانِ لِمَهَّدَ إِذَا وَطَّأَ لَهُ فِرَاشًا يُقَالُ : مَهَّدَ مَهْدًا وَمِهَادًا وَفَرَشَ فَرْشًا وَفِرَاشًا .
الْبَحْثُ الثَّانِي : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الَّذِي جَعَلَ ) مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52رَبِّي ) ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ ، وَهَذَا مِنْ مَظَانِّهِ وَمَجَازِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَسَدَ النَّظْمُ بِسَبَبِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْبَحْثُ الثَّالِثُ :
nindex.php?page=treesubj&link=32411_32415_31756الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ مَهْدًا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ الْعِبَادُ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا بِالْقُعُودِ وَالْقِيَامِ وَالنَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ وَجَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[ ص: 60 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) [ الْبَقَرَةِ : 22 ] .
وَثَانِيهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ) قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : سَلَكَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=42مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) [ الْمُدَّثِّرِ : 42 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=200كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أَيْ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَوَسَّطَهَا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبَرَارِي .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .