الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه السلام أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله تعالى : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 173 ] المسألة الأولى : في تفسير هذا التسبيح وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال مقاتل : إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال سليمان بن حيان : كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا وتعظيما ، والقول الأول أقرب ؛ لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المعتزلة فقالوا : لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه ؛ والأول : محال ؛ لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يكون حيا عالما قادرا يستحيل منه الفعل ، والثاني : أيضا محال ؛ لأن المتكلم عندهم من كان فاعلا للكلام ، لا من كان محلا للكلام ، فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل ، فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فعند هذا قالوا في : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ) ومثله قوله تعالى : ( ياجبال أوبي معه ) [ سبأ : 10 ] معناه تصرفي معه وسيري بأمره ، ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ، ولو لم يقصد التكثير لقيل : يسبحن ، فلما كثر قيل : يسبحن معه ، أي سيري وهو كقوله : ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) [ المزمل : 7 ] أي تصرفا ومذهبا . إذا ثبت هذا فنقول : إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه ، واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة ، وهذا ممنوع ، وعلى أن التكلم من فعل الله ، وهو أيضا ممنوع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام ، ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف ، بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهى ، وإن لم يكن مكلفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق ، وأيضا فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز ؛ فيكون القول فيه كالقول في الجبال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف ، كأن قائلا قال : كيف سخرهن ؟ فقال : يسبحن . "والطير" إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه . فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ؛ لأنها جماد ، والطير حيوان ناطق .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وكنا فاعلين ) فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا ، وإن كان عجبا عندكم ، وقيل : نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الإنعام الثالث : قوله تعالى : ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اللبوس اللباس ، قال : البس لكل حالة لبوسها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : " لتحصنكم " قرئ بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها ، فالنون لله عز وجل ، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع ، والياء لله تعالى أو لداود أو للبوس .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 174 ] المسألة الثالثة : قال قتادة : أول من صنع الدرع داود عليه السلام ، وإنما كانت صفائح قبله ، فهو أول من سردها واتخذها حلقا ، ذكر الحسن أن لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع ، فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه ، فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ؛ قالوا : إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : البأس هاهنا الحرب ، وإن وقع على السوء كله ، والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من بأسكم ، أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس منه ، فتوارث الناس عنه ذلك ، فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر ، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال : ( فهل أنتم شاكرون ) أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة ، واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص داود بها ذكر بعده النعم التي خص بها سليمان عليه السلام ، وقال قتادة : ورث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                            الإنعام الأول : قوله تعالى : ( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره ) أي جعلناها طائعة منقادة له ، بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة ، وإن أرادها لينة كانت لينة ، والله تعالى مسخرها في الحالتين ، فإن قيل : العاصف الشديدة الهبوب ، وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله : ( رخاء حيث أصاب ) [ ص : 36 ] فكيف يكون الجمع بينهما ؟ والجواب : من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) [ سبأ : 12 ] وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان عليه السلام ، وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ، ومعجزة إلى معجزة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا ، لأجل هبوبها على حكم إرادته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قرئ " الريح " و"الرياح" بالرفع والنصب فيهما ، فالرفع على الابتداء ، والنصب للعطف على الجبال ، فإن قيل : قال في داود : ( وسخرنا مع داود الجبال ) وقال في حق سليمان : ( ولسليمان الريح ) فذكره في حق داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضا في قوله : ( ياجبال أوبي معه والطير ) [ سبأ : 10 ] وقال : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره ) [ ص : 36 ] فما الفائدة في تخصيص داود عليه السلام بلفظ مع ، وسليمان باللام ؟ قلنا : يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف ، فما أضيف إليه بلام التمليك ، أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة ، فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك ، وهذا إقناعي .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية