المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83أني مسني الضر ) أي ناداه بأني مسني الضر ، وقرئ " إني " بالكسر على إضمار القول ، أو لتضمين النداء معناه ، والضر بالفتح ؛ الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال .
المسألة الرابعة : أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ، فإن قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=31797_31906_28751أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابرا ؟ الجواب : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء ، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=86إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) [ يوسف : 86 ] أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وأنت أرحم الراحمين ) فالدليل على أنه سبحانه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83أرحم الراحمين ) أمور :
أحدها : أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا ، أو الثواب في الآخرة ، أو دفعا للرقة الجنسية عن الطبع ، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه ، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه ، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ، ومن صفات الكمال ، فكان سبحانه أرحم الراحمين .
وثانيها : أن كل
nindex.php?page=treesubj&link=29693_19958_19959من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى ؛ لأن من أعطى غيره طعاما أو ثوبا أو دفع عنه بلاء ، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية ، وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ، ثم بعد وصول تلك العطية إليه ، فلولا أنه سبحانه جعله سببا للراحة لما حصل النفع بذلك ، فإذا رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته ، بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر ، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين .
وثالثها : أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه ، فكان الراحم هو الحق سبحانه ، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية ، فثبت أنه أرحم الراحمين ؛ فإن قيل ؛ كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام ، وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء ، وكان قادرا على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه ؟ والجواب : أن كونه سبحانه ضارا لا ينافي كونه نافعا ، بل هو الضار النافع ؛ فإضراره ليس لدفع مشقة ، وإنفاعه ليس لجلب منفعة ، بل لا يسأل عما يفعل .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84فاستجبنا له ) فإنه يدل على أنه دعا ربه ، لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعا منه على سبيل التعريض ، كما يقال : إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا ، ويجوز أن يكون على سبيل التصريح ؛ وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول ، ثم إنه سبحانه بين أنه كشف ما به من ضر ، وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله ، وبين الله تعالى أنه آتاه أهله , ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد
[ ص: 182 ] وغيرهما ؛ ثم فيه قولان :
أحدهما : وهو قول
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب - رضي الله عنهم - : إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم ؛ والثاني : روى
الليث رضي الله عنه ، قال : أرسل
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد إلى
عكرمة وسأله عن الآية فقال : قيل له : إن أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا . فقال : يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا . والقول الأول أولى ؛ لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وآتيناه أهله ) يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا ، وأعطاه معهم مثلهم أيضا .
وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وذكرى للعابدين ) ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه ؛ فيكون داعية للعابدين في الصبر والاحتساب ، وإنما خص العابدين بالذكر [ ى ] لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ) أَيْ نَادَاهُ بِأَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ، وَقُرِئَ " إِنِّي " بِالْكَسْرِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ ، أَوْ لِتَضْمِينِ النِّدَاءِ مَعْنَاهُ ، وَالضَّرُّ بِالْفَتْحِ ؛ الضَّرَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَبِالضَّمِّ الضَّرَرُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَرَضٍ وَهُزَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلْطَفَ فِي السُّؤَالِ حَيْثُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بِمَا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ ، وَذَكَرَ رَبَّهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَطْلُوبِ ، فَإِنْ قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=31797_31906_28751أَلَيْسَ أَنَّ الشَّكْوَى تَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ صَابِرًا ؟ الْجَوَابُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16008سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ شَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ جَزَعًا إِذَا كَانَ فِي شَكْوَاهُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّبْرِ اسْتِحْلَاءُ الْبَلَاءِ ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=86إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) [ يُوسُفَ : 86 ] أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=83أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أُمُورٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَأَمَّا أَنْ يَرْحَمَهُ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا ، أَوِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ دَفْعًا لِلرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ عَنِ الطَّبْعِ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَطْلُوبُ ذَلِكَ الرَّاحِمِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ يَرْحَمُ عِبَادَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ مِنَ الثَّنَاءِ ، وَمِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، فَكَانَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ كُلَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29693_19958_19959مَنْ يَرْحَمُ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَفَعَ عَنْهُ بَلَاءً ، فَلَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَطْعُومَ وَالْمَلْبُوسَ وَالْأَدْوِيَةَ وَالْأَغْذِيَةَ ، وَإِلَّا لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى إِعْطَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، ثُمَّ بَعْدَ وُصُولِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ إِلَيْهِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ لَمَا حَصَلَ النَّفْعُ بِذَلِكَ ، فَإِذَا رَحْمَةُ الْعِبَادِ مَسْبُوقَةٌ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلْحُوقَةٌ بِرَحْمَتِهِ ، بَلْ رَحْمَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقْ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ وَالْإِرَادَاتِ لَاسْتَحَالَ صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْهُ ، فَكَانَ الرَّاحِمُ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ؛ فَإِنْ قِيلَ ؛ كَيْفَ يَكُونُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَأَ الدُّنْيَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ ، وَسَلَّطَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ بِالذَّبْحِ وَالْكَسْرِ وَالْإِيذَاءِ ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ إِيلَامِ الْآخَرِ وَإِيذَائِهِ ؟ وَالْجَوَابُ : أَنَّ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ ضَارًّا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَافِعًا ، بَلْ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ ؛ فَإِضْرَارُهُ لَيْسَ لِدَفْعِ مَشَقَّةٍ ، وَإِنْفَاعُهُ لَيْسَ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ، لَكِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ ، كَمَا يُقَالُ : إِنْ رَأَيْتَ أَوْ أَرَدْتَ أَوْ أَحْبَبْتَ فَافْعَلْ كَذَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِالْأَدَبِ وَبِدَلَالَةِ الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ كَشَفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِعَادَتَهُ إِلَى مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ , وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ
[ ص: 182 ] وَغَيْرِهِمَا ؛ ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ مَسْعُودٍ nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَكَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَهْلَهُ يَعْنِي أَوْلَادَهُ بِأَعْيَانِهِمْ ؛ وَالثَّانِي : رَوَى
اللَّيْثُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَرْسَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٌ إِلَى
عِكْرِمَةَ وَسَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ : قِيلَ لَهُ : إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا . فَقَالَ : يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ ) يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَأَعْطَاهُ مَعَهُمْ مِثْلَهُمْ أَيْضًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=84وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِكَيْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ ؛ فَيَكُونَ دَاعِيَةً لِلْعَابِدِينَ فِي الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَابِدِينَ بِالذِّكْرِ [ ى ] لِأَنَّهُمْ يَخْتَصُّونَ بِالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ .