واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور ، وهي هاهنا:
[ ص: 80 ] القصة الأولى
nindex.php?page=treesubj&link=31827_32016_28901قصة نوح عليه السلام
(
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين )
قال قوم: إن
nindex.php?page=treesubj&link=31827_32016نوحا كان اسمه يشكر، ثم سمي نوحا لوجوه :
أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك.
وثانيها: لمراجعة ربه في شأن ابنه .
وثالثها: أنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فعوتب على ذلك، فقال الله له: أعبتني إذ خلقته، أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه مشكلة؛ لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23اعبدوا الله ) فالمعنى أنه سبحانه أرسله
nindex.php?page=treesubj&link=32020_34056بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده، ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولا; لأن عبادة من لا يكون معلوما غير جائزة، وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة.
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23ما لكم من إله غيره ) فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. ومن
nindex.php?page=treesubj&link=30489_28345حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما، فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ وقرئ "غيره" بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ، ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23أفلا تتقون ) لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه. ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة
نوح عليه السلام .
الشبهة الأولى: قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24ما هذا إلا بشر مثلكم ) وهذه الشبهة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: إنه لما كان مساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض ، امتنع كونه رسولا لله; لأن الرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى وحبيبا له، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة، فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني: أن يقال: هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلا إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته، فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبرا عنهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24يريد أن يتفضل عليكم ) أي: يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم ، كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=78وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) [يونس: 78] .
[ ص: 81 ] الشبهة الثانية: قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24ولو شاء الله لأنزل ملائكة ) وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود، ومعلوم أن
nindex.php?page=treesubj&link=29747_28736بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر; لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم، فالخلق ينقادون إليهم، ولا يشكون في رسالتهم، فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا البتة.
الشبهة الثالثة: قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) وقوله: "بهذا" إشارة إلى
نوح عليه السلام ، أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى ، أي: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله، وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواما لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلما لم يجدوا في نبوة
نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها. قال القاضي: يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولا مبعوثا; لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة، ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده; لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان.
الشبهة الرابعة: قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25إن هو إلا رجل به جنة ) والجنة: الجنون أو الجن، فإن جهال العوام يقولون في المجنون: زال عقله بعمل الجن، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم، فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام: إنه مجنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا.
الشبهة الخامسة: قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25فتربصوا به حتى حين ) وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله ؛ أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره , فإن أفاق وإلا قتلتموه، ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم: اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوي أمره، فنحن حينئذ نتبعه, وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه، فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم. واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها، وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا لأنه من جنس الملك وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا، بل جعل الرسول من جملة البشر أولى لما مر بيانه في السور المتقدمة، وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة، وأما قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24يريد أن يتفضل عليكم ) فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب على الرسول، وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد، فالأنبياء منزهون عن ذلك، وأما قولهم : ما سمعنا بهذا ، فهو استدلال بعدم التقليد على عدم وجود الشيء وهو في غاية السقوط; لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء, فعدمه من أين يدل على عدمه؟ وأما قولهم : به جنة، فقد كذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله، وأما قولهم: فتربصوا به، فضعيف؛ لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته; لأن الدولة لا تدل على الحقية، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله ، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر، ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور لا جرم تركها الله سبحانه.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ أَرْدَفَهَا بِالْقَصَصِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ ، وَهِيَ هَاهُنَا:
[ ص: 80 ] الْقِصَّةُ الْأُولَى
nindex.php?page=treesubj&link=31827_32016_28901قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ )
قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31827_32016نُوحًا كَانَ اسْمُهُ يَشْكُرُ، ثُمَّ سُمِّيَ نُوحًا لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا: لِكَثْرَةِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ بِالْهَلَاكِ، فَأَهْلَكَهُمْ بِالطُّوفَانِ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَثَانِيهَا: لِمُرَاجَعَةِ رَبِّهِ فِي شَأْنِ ابْنِهِ .
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَرَّ بِكَلْبٍ مَجْذُومٍ، فَقَالَ لَهُ: اخْسَأْ يَا قَبِيحُ، فَعُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: أَعِبْتَنِي إِذْ خَلَقْتُهُ، أَمْ عِبْتَ الْكَلْبَ؟ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُشْكِلَةٌ؛ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَعْلَامَ لَا تُفِيدُ صِفَةً فِي الْمُسَمَّى.
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23اعْبُدُوا اللَّهَ ) فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَهُ
nindex.php?page=treesubj&link=32020_34056بِالدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أَوَّلًا; لِأَنَّ عِبَادَةَ مَنْ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وَيَجِبُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) فَالْمُرَادُ أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ لَا تَجُوزُ إِذْ لَا إِلَهَ سِوَاهُ. وَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30489_28345حَقِّ الْعِبَادَةِ أَنْ تُحْسِنَ لِمَنْ أَنْعَمَ بِالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَمَا بَعْدَهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟ وَقُرِئَ "غَيْرُهُ" بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَحَلِّ وَبِالْجَرِّ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْ فِيهِمْ هَذَا الدُّعَاءُ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَذَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=23أَفَلَا تَتَّقُونَ ) لِأَنَّ ذَلِكَ زَجْرٌ وَوَعِيدٌ بِاتِّقَاءِ الْعُقُوبَةِ لِيَنْصَرِفُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْهُمْ شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَحْتِمَلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ النَّاسِ فِي الْقُوَّةِ وَالْفَهْمِ وَالْعِلْمِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، امْتَنَعَ كَوْنُهُ رَسُولًا لِلَّهِ; لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَبِيبًا لَهُ، وَالْحَبِيبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُخْتَصَّ عَنْ غَيْرِ الْحَبِيبِ بِمَزِيدِ الدَّرَجَةِ وَالْمَعَزَّةِ، فَلَمَّا فُقِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلِمْنَا انْتِفَاءَ الرِّسَالَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ مُشَارِكٌ لَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ الرِّيَاسَةَ وَالْمَتْبُوعِيَّةَ فَلَمْ يَجِدْ إِلَيْهِمَا سَبِيلًا إِلَّا بِادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي الْقَدْحِ فِي نُبُوَّتِهِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ الْفَضْلَ عَلَيْكُمْ وَيَرْأَسَكُمْ ، كَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=78وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) [يُونُسَ: 78] .
[ ص: 81 ] الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً ) وَشَرْحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ إِرْشَادَ الْبَشَرِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَكُونُ أَشَدَّ إِفْضَاءً إِلَى الْمَقْصُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29747_28736بِعْثَةَ الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ إِفْضَاءً إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ بِعْثَةِ الْبَشَرِ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِمْ وَشِدَّةِ سَطْوَتِهِمْ وَكَثْرَةِ عُلُومِهِمْ، فَالْخَلْقُ يَنْقَادُونَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي رِسَالَتِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا الْبَتَّةَ.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ) وَقَوْلُهُ: "بِهَذَا" إِشَارَةٌ إِلَى
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ إِلَى مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَيْ: مَا سَمِعْنَا بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، أَوْ بِمِثْلِ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي وَهُوَ بَشَرٌ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَشَرْحُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَامًا لَا يُعَوِّلُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ إِلَّا عَلَى التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْآبَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا فِي نُبُوَّةِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ حَكَمُوا بِفَسَادِهَا. قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ كَوْنَهُ رَسُولًا مَبْعُوثًا; لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ زَمَانِ آبَائِهِمْ أَنَّهُ كَانَ زَمَانَ فَتْرَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ دُعَاءَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ) وَالْجِنَّةُ: الْجُنُونُ أَوِ الْجِنُّ، فَإِنَّ جُهَّالَ الْعَوَامِّ يَقُولُونَ فِي الْمَجْنُونِ: زَالَ عَقْلُهُ بِعَمَلِ الْجِنِّ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مِنْ بَابِ التَّرْوِيجِ عَلَى الْعَوَامِّ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَفْعَلُ أَفْعَالًا عَلَى خِلَافِ عَادَاتِهِمْ، فَأُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْعَوَامِّ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَمَنْ كَانَ مَجْنُونًا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا.
الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=25فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ ؛ أَيْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ فَاصْبِرُوا إِلَى زَمَانٍ حَتَّى يَظْهَرَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ , فَإِنْ أَفَاقَ وَإِلَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا لِقَوْمِهِمْ: اصْبِرُوا فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا حَقًّا فَاللَّهُ يَنْصُرُهُ وَيُقَوِّي أَمْرَهَ، فَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَتَّبِعُهُ, وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَاللَّهُ يَخْذُلُهُ وَيُبْطِلُ أَمْرَهُ، فَحِينَئِذٍ نَسْتَرِيحُ مِنْهُ، فَهَذِهِ مَجْمُوعُ الشُّبَهِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهَا لِرَكَاكَتِهَا وَوُضُوحِ فَسَادِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَصِيرُ رَسُولًا لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَكِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِأَنْ يَتَمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ، فَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَكِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، بَلْ جَعْلُ الرَّسُولِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَشَرِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=24يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ إِرَادَتَهُ لِإِظْهَارِ فَضْلِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُمُ الِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالِانْقِيَادِ، فَالْأَنْبِيَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : مَا سَمِعْنَا بِهَذَا ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ التَّقْلِيدِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الشَّيْءِ وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ; لِأَنَّ وُجُودَ التَّقْلِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ, فَعَدَمُهُ مِنْ أَيْنَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : بِهِ جِنَّةٌ، فَقَدْ كَذَبُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ كَمَالَ عَقْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَتَرَبَّصُوا بِهِ، فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ ظَهَرَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ تَوْقِيفُ ذَلِكَ إِلَى ظُهُورِ دَوْلَتِهِ; لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمُعْجِزُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ قَوْلِهِ ، سَوَاءٌ ظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ فِي نِهَايَةِ الظُّهُورِ لَا جَرَمَ تَرَكَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ.