(
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم )
أما المثل الأول فهو قوله سبحانه وتعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم )
اعلم أن الكلام في هذه الآية مرتب على فصول :
الفصل الأول في
nindex.php?page=treesubj&link=28723_29682إطلاق اسم النور على الله تعالى
اعلم أن لفظ النور موضوع في اللغة لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما ، وهذه الكيفية يستحيل أن تكون إلها لوجوه :
أحدها : أن هذه
nindex.php?page=treesubj&link=29426الكيفية إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدال على حدوث الجسم دالا على حدوثها ، وإن كانت عرضا فمتى ثبت [حدوثه ثبت] حدوث جميع الأعراض القائمة به ، ولكن هذه المقدمة إنما تثبت بعد إقامة الدلالة على أن الحلول على الله تعالى محال .
وثانيها : أنا سواء قلنا النور جسم أو أمر حال في الجسم فهو منقسم ، لأنه إن كان جسما فلا شك في أنه منقسم ، وإن كان حالا فيه ، فالحال في المنقسم منقسم ، وعلى التقديرين فالنور منقسم وكل منقسم فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره ، وكل مفتقر فهو في تحققه مفتقر إلى غيره ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره ، فالنور محدث فلا يكون إلها .
وثالثها : أن هذا النور المحسوس لو كان هو الله لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على الله تعالى .
ورابعها : أن هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس والكواكب . وذلك على الله محال .
وخامسها : أن هذه الأنوار لو كانت أزلية لكانت إما أن تكون متحركة أو ساكنة ، لا جائز أن تكون متحركة لأن الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان ، فالحركة مسبوقة بالحصول في المكان الأول . والأزلي يمتنع أن يكون مسبوقا بالغير ، فالحركة الأزلية محال . ولا جائز أن تكون ساكنة لأن السكون لو كان أزليا لكان ممتنع الزوال ، لكن السكون جائز الزوال ، لأنا نرى الأنوار تنتقل من مكان إلى مكان فدل ذلك على حدوث الأنوار .
وسادسها : أن النور إما أن يكون جسما أو كيفية قائمة بالجسم ، والأول محال لأنا قد نعقل الجسم جسما مع الذهول عن كونه نيرا ولأن الجسم قد يستنير بعد أن كان مظلما فثبت الثاني لكن الكيفية القائمة بالجسم محتاجة إلى الجسم ، والمحتاج إلى الغير لا يكون إلها ، وبمجموع هذه الدلائل يبطل قول
المانوية الذين يعتقدون أن الإله سبحانه هو النور الأعظم . وأما
المجسمة [ ص: 195 ] المعترفون بصحة القرآن فيحتج على فساد قولهم بوجهين :
الأول : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) [الشورى : 11] ولو كان نورا لبطل ذلك لأن الأنوار كلها متماثلة .
الثاني : أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35مثل نوره ) صريح في أنه ليس ذاته نفس النور بل النور مضاف إليه . وكذا قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35يهدي الله لنوره من يشاء ) فإن قيل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الله نور السماوات ) يقتضي ظاهره أنه في ذاته نور . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35مثل نوره ) يقتضي أن لا يكون هو في ذاته نورا وبينهما تناقض ، قلنا : نظير هذه الآية قولك : زيد كرم وجود ، ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده ، وعلى هذا الطريق لا تناقض .
الثالث : قوله سبحانه وتعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) [الأنعام : 1] وذلك صريح في أن ماهية النور مجعولة لله تعالى فيستحيل أن يكون الإله نورا ، فثبت أنه لا بد من التأويل ، والعلماء ذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن النور سبب للظهور ، والهداية لما شاركت النور في هذا المعنى صح
nindex.php?page=treesubj&link=29682إطلاق اسم النور على الهداية وهو كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [البقرة : 257] .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ) [الأنعام : 122] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) [الشورى : 52] فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الله نور السماوات والأرض ) أي ذو نور السماوات والأرض ، والنور هو الهداية ولا تحصل إلا لأهل السماوات ، والحاصل أن المراد : الله هادي أهل السماوات والأرض وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم .
وثانيها : المراد أنه مدبر السماوات والأرض بحكمة بالغة وحجة نيرة ، فوصف نفسه بذلك كما يوصف الرئيس العالم بأنه نور البلد ، فإنه إذا كان مدبرهم تدبيرا حسنا فهو لهم كالنور الذي يهتدى به إلى مسالك الطرق ، قال
جرير :
وأنت لنا نور وغيث وعصمة
وهذا اختيار
الأصم والزجاج .
وثالثها : المراد ناظم السماوات والأرض على الترتيب الأحسن ، فإنه قد يعبر بالنور على النظام ، يقال ما أرى لهذا الأمر نورا .
ورابعها : معناه منور السماوات والأرض ، ثم ذكروا في هذا القول ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منور السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء .
والثاني : منورها بالشمس والقمر والكواكب .
والثالث : أنه زين السماء بالشمس والقمر والكواكب ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء ، وهو مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب والحسن nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبي العالية ، والأقرب هو القول الأول لأن قوله في آخر الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35يهدي الله لنوره من يشاء ) يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل . واعلم أن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي رحمه الله صنف في تفسير هذه الآية الكتاب المسمى بمشكاة الأنوار ، وزعم أن الله نور في الحقيقة بل ليس النور إلا هو ، وأنا أنقل محصل ما ذكره مع زوائد كثيرة تقوي كلامه ثم ننظر في صحته وفساده على سبيل الإنصاف ، فقال :
nindex.php?page=treesubj&link=19786_19784_29444اسم النور إنما وضع للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر هذه الأجسام الكثيفة ، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الثوب ونور السراج على الحائط ، ومعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف ؛ لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة منجلية ، ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذا يتوقف على وجود العين الباصرة إذ المرئيات بعد استنارتها لا تكون ظاهرة في حق العميان فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهرة في كونه ركنا لا بد منه للظهور ، ثم يرجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك ، وأما النور الخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك ،
[ ص: 196 ] فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف ، وفي الأعمش إنه ضعف نور بصره . وفي الأعمى إنه فقد نور البصر . إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصرا وبصيرة ، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان ، والبصيرة هي القوة العاقلة ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك ، فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوبا لم يحصل شيء منها في نور العقل ،
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي رحمه الله ذكر منها سبعة ، ونحن جعلناها عشرين :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19784_19782_19789_19323_20697القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها ، أما أنها لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها فلأن القوة الباصرة وإدراك القوة الباصرة ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة ، وأما آلتها فهي العين ، والقوة الباصرة بالعين لا تدرك العين ، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب والدماغ ، فثبت أن نور العقل أكمل من نور البصر .
الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19789_19323_20697القوة الباصرة لا تدرك الكليات والقوة العاقلة تدركها ، ومدرك الكليات وهو القلب أشرف من مدرك الجزئيات ، أما أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات فلأن القوة الباصرة لو أدركت كل ما في الوجود فهي ما أدركت الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل ، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فالإنسانية من حيث هي إنسانية أمر مغاير لهذه المشخصات فقد عقلنا الماهية الكلية ، وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير ، وإدراك الجزئيات واجب التغير ، ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات الواقعة تحته ، لأن ما ثبت للماهية ثبت لجميع أفرادها ولا ينعكس ، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف .
الثالث :
nindex.php?page=treesubj&link=20697الإدراك الحسي غير منتج والإدراك العقلي منتج ، فوجب أن يكون العقل أشرف ، أما كون الإدراك الحسي غير منتج فلأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سببا لحصول إحساس آخر له ، بل لو استعمل له الحس مرة أخرى لأحس به مرة أخرى ولكن ذلك لا يكون إنتاج الإحساس لإحساس آخر ، وأما أن الإدراك العقلي منتج فلأنا إذا عقلنا أمورا ثم ركبناها في عقولنا توسلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخرى ، وهكذا كل تعقل حاصل فإنه يمكن التوسل به إلى تحصيل تعقل آخر إلى ما لا نهاية له ، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف .
الرابع :
nindex.php?page=treesubj&link=28446الإدراك الحسي لا يتسع للأمور الكثيرة ، والإدراك العقلي يتسع لها ، فوجب أن يكون الإدراك العقلي أشرف . أما أن الإدراك الحسي لا يتسع لها فلأن البصر إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن تمييزها ، فأدرك لونا كأنه حاصل من اختلاط تلك الألوان [و] السمع إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات ولم يحصل التمييز ، وأما أن الإدراك العقلي متسع لها فلأن كل من كان تحصيله للعلوم أكثر كانت قدرته على كسب الجديد أسهل ، وبالعكس ؛ وذلك يوجب الحكم بأن الإدراك العقلي أشرف .
الخامس :
nindex.php?page=treesubj&link=32406القوة الحسية إذا أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة ، فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف ، والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول .
[ ص: 197 ] السادس :
nindex.php?page=treesubj&link=32406القوى الحسية تضعف بعد الأربعين ، وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجبة لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن ،
nindex.php?page=treesubj&link=32406والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن ، فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها .
السابع :
nindex.php?page=treesubj&link=28446القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد ، والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد ، فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة ، بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزها عن القرب والبعد والجهة ، فكانت القوة العقلية أشرف .
الثامن :
nindex.php?page=treesubj&link=28446القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه ، وإلا اللون القائم بذلك السطح ، وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون ، فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن ، أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها ، فكانت القوة العاقلة نورا بالنسبة إلى الباطن والظاهر ، أما القوة الباصرة فهي بالنسبة إلى الظاهر نور وبالنسبة إلى الباطن ظلمة ، فكانت القوة العاقلة أشرف من القوة الباصرة .
التاسع : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29444_32410_28446مدرك القوة العاقلة هو الله تعالى وجميع أفعالها ، ومدرك القوة الباصرة هو الألوان والأشكال ، فوجب أن تكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله تعالى إلى شرف الألوان والأشكال .
العاشر :
nindex.php?page=treesubj&link=32406_28446القوة العاقلة تدرك جميع الموجودات والمعدومات والماهيات التي هي معروضات الموجودات والمعدومات ، ولذلك فإن أول حكمه أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وذلك مسبوق لا محالة بتصور مسمى الوجود ومسمى العدم ، فكأنه بهذين التصورين قد أحاط بجميع الأمور من بعض الوجوه . وأما القوة الباصرة فإنها لا تدرك إلا الأضواء والألوان وهما من أخس عوارض الأجسام ، والأجسام أخس من الجواهر الروحانية ، فكان متعلق القوة الباصرة أخس الموجودات . وأما متعلق القوة العاقلة فهو جميع الموجودات والمعدومات ، فكانت القوة العاقلة أشرف .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
أَمَّا الْمَثَلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى فُصُولٍ :
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28723_29682إِطْلَاقِ اسْمِ النُّورِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجُدْرَانِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=29426الْكَيْفِيَّةَ إِنْ كَانَتْ عِبَارَةً عَنِ الْجِسْمِ كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ دَالًّا عَلَى حُدُوثِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ عَرَضًا فَمَتَى ثَبَتَ [حُدُوثُهُ ثَبَتَ] حُدُوثُ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهِ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحُلُولَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ .
وَثَانِيهَا : أَنَّا سَوَاءٌ قُلْنَا النُّورُ جِسْمٌ أَوْ أَمْرٌ حَالٌّ فِي الْجِسْمِ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ جِسْمًا فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مُنْقَسِمٌ ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا فِيهِ ، فَالْحَالُّ فِي الْمُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالنُّورُ مُنْقَسِمٌ وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى تَحَقُّقِ أَجْزَائِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ فَهُوَ فِي تَحَقُّقِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مُحْدَثٌ بِغَيْرِهِ ، فَالنُّورُ مُحْدَثٌ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَحْسُوسَ لَوْ كَانَ هُوَ اللَّهُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ هَذَا النُّورُ لِامْتِنَاعِ الزَّوَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَحْسُوسَ يَقَعُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ . وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ لَوْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَحَرِّكَةً أَوْ سَاكِنَةً ، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ مُتَحَرِّكَةً لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، فَالْحَرَكَةُ مَسْبُوقَةٌ بِالْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ الْأَوَّلِ . وَالْأَزَلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْغَيْرِ ، فَالْحَرَكَةُ الْأَزَلِيَّةُ مُحَالٌ . وَلَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةً لِأَنَّ السُّكُونَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ مُمْتَنِعَ الزَّوَالِ ، لَكِنَّ السُّكُونَ جَائِزُ الزَّوَالِ ، لِأَنَّا نَرَى الْأَنْوَارَ تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْأَنْوَارِ .
وَسَادِسُهَا : أَنَّ النُّورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ كَيْفِيَّةً قَائِمَةً بِالْجِسْمِ ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْجِسْمَ جِسْمًا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِهِ نَيِّرًا وَلِأَنَّ الْجِسْمَ قَدْ يَسْتَنِيرُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُظْلِمًا فَثَبَتَ الثَّانِي لَكِنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِالْجِسْمِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْجِسْمِ ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَهًا ، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يَبْطُلُ قَوْلُ
الْمَانَوِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ سُبْحَانَهُ هُوَ النُّورُ الْأَعْظَمُ . وَأَمَّا
الْمُجَسِّمَةُ [ ص: 195 ] الْمُعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ الْقُرْآنِ فَيُحْتَجُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشُّورَى : 11] وَلَوْ كَانَ نُورًا لَبَطَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْوَارَ كُلَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35مَثَلُ نُورِهِ ) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتُهُ نَفْسَ النُّورِ بَلِ النُّورُ مُضَافٌ إِلَيْهِ . وَكَذَا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ ) يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ نُورٌ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35مَثَلُ نُورِهِ ) يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ فِي ذَاتِهِ نُورًا وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ ، قُلْنَا : نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُكَ : زَيْدٌ كَرَمٌ وَجُودٌ ، ثُمَّ تَقُولُ يُنْعِشُ النَّاسَ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا تَنَاقُضَ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) [الْأَنْعَامِ : 1] وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَاهِيَّةَ النُّورِ مَجْعُولَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ نُورًا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : أَنَّ النُّورَ سَبَبٌ لِلظُّهُورِ ، وَالْهِدَايَةُ لَمَّا شَارَكَتِ النُّورَ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَحَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29682إِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) [الْبَقَرَةِ : 257] .
وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ) [الْأَنْعَامِ : 122] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) [الشُّورَى : 52] فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) أَيْ ذُو نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَالنُّورُ هُوَ الْهِدَايَةُ وَلَا تَحْصُلُ إِلَّا لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ : اللَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَثَانِيهَا : الْمُرَادُ أَنَّهُ مُدَبِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ نَيِّرَةٍ ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ كَمَا يُوصَفُ الرَّئِيسُ الْعَالِمُ بِأَنَّهُ نُورُ الْبَلَدِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُدَبِّرَهُمْ تَدْبِيرًا حَسَنًا فَهُوَ لَهُمْ كَالنُّورِ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ إِلَى مَسَالِكِ الطُّرُقِ ، قَالَ
جَرِيرٌ :
وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وَغَيْثٌ وَعِصْمَةٌ
وَهَذَا اخْتِيَارُ
الْأَصَمِّ وَالزَّجَّاجِ .
وَثَالِثُهَا : الْمُرَادُ نَاظِمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَحْسَنِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِالنُّورِ عَلَى النِّظَامِ ، يُقَالُ مَا أَرَى لِهَذَا الْأَمْرِ نُورًا .
وَرَابِعُهَا : مَعْنَاهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاءِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْضِ بِالْأَنْبِيَاءِ .
وَالثَّانِي : مُنَوِّرُهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ ، وَزَيَّنَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=34أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالْحَسَنِ nindex.php?page=showalam&ids=11873وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَنَّفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى بِمِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ لَيْسَ النُّورُ إِلَّا هُوَ ، وَأَنَا أَنْقُلُ مُحَصِّلَ مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُقَوِّي كَلَامَهُ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْصَافِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=19786_19784_29444اسْمُ النُّورِ إِنَّمَا وُضِعَ لِلْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ ، فَيُقَالُ اسْتَنَارَتِ الْأَرْضُ وَوَقَعَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى الثَّوْبِ وَنُورُ السِّرَاجِ عَلَى الْحَائِطِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ إِنَّمَا اخْتُصَّتْ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّاتِ تَصِيرُ بِسَبَبِهَا ظَاهِرَةً مُنْجَلِيَةً ، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ إِدْرَاكُ هَذِهِ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَنِيرَةً فَكَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِذِ الْمَرْئِيَّاتُ بَعْدَ اسْتِنَارَتِهَا لَا تَكُونُ ظَاهِرَةً فِي حَقِّ الْعُمْيَانِ فَقَدْ سَاوَى الرُّوحُ الْبَاصِرَةُ النُّورَ الظَّاهِرَةَ فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلظُّهُورِ ، ثُمَّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الرُّوحَ الْبَاصِرَةَ هِيَ الْمُدْرِكَةُ وَبِهَا الْإِدْرَاكُ ، وَأَمَّا النُّورُ الْخَارِجُ فَلَيْسَ بِمُدْرِكٍ وَلَا بِهِ الْإِدْرَاكُ بَلْ عِنْدَهُ الْإِدْرَاكُ ،
[ ص: 196 ] فَكَانَ وَصْفُ الْإِظْهَارِ بِالنُّورِ الْبَاصِرِ أَحَقَّ مِنْهُ بِالنُّورِ الْمُبْصَرِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقُوا اسْمَ النُّورِ عَلَى نُورِ الْعَيْنِ الْمُبْصِرَةِ فَقَالُوا فِي الْخُفَّاشِ إِنَّ نُورَ عَيْنِهِ ضَعِيفٌ ، وَفِي الْأَعْمَشِ إِنَّهُ ضَعُفَ نُورُ بَصَرِهِ . وَفِي الْأَعْمَى إِنَّهُ فَقَدَ نُورَ الْبَصَرِ . إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ لِلْإِنْسَانِ بَصَرًا وَبَصِيرَةً ، فَالْبَصَرُ هُوَ الْعَيْنُ الظَّاهِرَةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْأَضْوَاءِ وَالْأَلْوَانِ ، وَالْبَصِيرَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الْمُدْرَكِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ نُورٌ إِلَّا أَنَّهُمْ عَدَّدُوا لِنُورِ الْعَيْنِ عُيُوبًا لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْهَا فِي نُورِ الْعَقْلِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14847وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ مِنْهَا سَبْعَةً ، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا عِشْرِينَ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19784_19782_19789_19323_20697الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَلَا تُدْرِكُ آلَتَهَا ، أَمَّا أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ وَإِدْرَاكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ بِالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ ، وَأَمَّا آلَتُهَا فَهِيَ الْعَيْنُ ، وَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بِالْعَيْنِ لَا تُدْرِكُ الْعَيْنَ ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَتُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَتُدْرِكُ آلَتَهَا فِي الْإِدْرَاكِ وَهِيَ الْقَلْبُ وَالدِّمَاغُ ، فَثَبَتَ أَنَّ نُورَ الْعَقْلِ أَكْمَلُ مِنْ نُورِ الْبَصَرِ .
الثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19789_19323_20697الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تُدْرِكُهَا ، وَمُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَهُوَ الْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنْ مُدْرِكِ الْجُزْئِيَّاتِ ، أَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَوْ أَدْرَكَتْ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهِيَ مَا أَدْرَكَتِ الْكُلَّ لِأَنَّ الْكُلَّ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ ، وَأَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ فَلِأَنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمَايِزَةٌ بِخُصُوصِيَّاتِهَا ، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ ، فَالْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنْسَانِيَّةٌ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْمُشَخَّصَاتِ فَقَدْ عَقَلْنَا الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ ، وَأَمَّا أَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ أَشْرَفُ فَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ ، وَإِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَاجِبُ التَّغَيُّرِ ، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيِّ يَتَضَمَّنُ إِدْرَاكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَهُ ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَاهِيَّةِ ثَبَتَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا وَلَا يَنْعَكِسُ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ .
الثَّالِثُ :
nindex.php?page=treesubj&link=20697الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ غَيْرُ مُنْتِجٍ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ مُنْتِجٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ أَشْرَفَ ، أَمَّا كَوْنُ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ غَيْرَ مُنْتِجٍ فَلِأَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ سَبَبًا لِحُصُولِ إِحْسَاسٍ آخَرَ لَهُ ، بَلْ لَوِ اسْتَعْمَلَ لَهُ الْحِسَّ مَرَّةً أُخْرَى لَأَحَسَّ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِنْتَاجَ الْإِحْسَاسِ لِإِحْسَاسٍ آخَرَ ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُنْتِجٌ فَلِأَنَّا إِذَا عَقَلْنَا أُمُورًا ثُمَّ رَكَّبْنَاهَا فِي عُقُولِنَا تَوَسَّلْنَا بِتَرْكِيبِهَا إِلَى اكْتِسَابِ عُلُومٍ أُخْرَى ، وَهَكَذَا كُلُّ تَعَقُّلٍ حَاصِلٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ تَعَقُّلٍ آخَرَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ .
الرَّابِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28446الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ لَا يَتَّسِعُ لِلْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ ، وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ يَتَّسِعُ لَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَشْرَفَ . أَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ لَا يَتَّسِعُ لَهَا فَلِأَنَّ الْبَصَرَ إِذَا تَوَالَى عَلَيْهِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ عَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهَا ، فَأَدْرَكَ لَوْنًا كَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنَ اخْتِلَاطِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ [وَ] السَّمْعُ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُتَّسِعٌ لَهَا فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْصِيلُهُ لِلْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى كَسْبِ الْجَدِيدِ أَسْهَلَ ، وَبِالْعَكْسِ ؛ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ .
الْخَامِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=32406الْقُوَّةُ الْحِسِّيَّةُ إِذَا أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَاتِ الْقَوِيَّةَ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْجِزُ عَنْ إِدْرَاكِ الضَّعِيفَةِ ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ الصَّوْتَ الشَّدِيدَ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ الصَّوْتَ الضَّعِيفَ ، وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَشْغَلُهَا مَعْقُولٌ عَنْ مَعْقُولٍ .
[ ص: 197 ] السَّادِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=32406الْقُوَى الْحِسِّيَّةُ تَضْعُفُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ، وَتَضْعُفُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْكَارِ الَّتِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ عَلَى الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِخَرَابِ الْبَدَنِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=32406وَالْقُوَى الْعَقْلِيَّةُ تَقْوَى بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ وَتَقْوَى عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْكَارِ الْمُوجِبَةِ لِخَرَابِ الْبَدَنِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِغْنَاءِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَنْ هَذِهِ الْآلَاتِ وَاحْتِيَاجِ الْقُوَى الْحِسِّيَّةِ إِلَيْهَا .
السَّابِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28446الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ لَا تُدْرِكُ الْمَرْئِيَّ مَعَ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وَلَا مَعَ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ ، وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، فَإِنَّهَا تَتَرَقَّى إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَتَنْزِلُ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى فِي أَقَلِّ مِنْ لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، بَلْ تُدْرِكُ ذَاتَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَالْجِهَةِ ، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشْرَفَ .
الثَّامِنُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28446الْقُوَّةُ الْحِسِّيَّةُ لَا تُدْرِكُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا ظَوَاهِرِهَا فَإِذَا أَدْرَكَتِ الْإِنْسَانَ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَدْرَكَتِ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهَا مَا أَدْرَكَتْ إِلَّا السَّطْحَ الظَّاهِرَ مِنْ جِسْمِهِ ، وَإِلَّا اللَّوْنَ الْقَائِمَ بِذَلِكَ السَّطْحِ ، وَبِالِاتِّفَاقِ فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ السَّطْحِ وَاللَّوْنِ ، فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ عَاجِزَةٌ عَنِ النُّفُوذِ فِي الْبَاطِنِ ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّ بَاطِنَ الْأَشْيَاءِ وَظَاهِرَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ الْبَوَاطِنَ وَالظَّوَاهِرَ وَتَغُوصُ فِيهَا وَفِي أَجْزَائِهَا ، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ نُورًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِرِ نُورٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ ظُلْمَةٌ ، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ مِنَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ .
التَّاسِعُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29444_32410_28446مُدْرِكَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَمِيعَ أَفْعَالِهَا ، وَمُدْرِكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ هُوَ الْأَلْوَانُ وَالْأَشْكَالُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ شَرَفِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ إِلَى شَرَفِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ كَنِسْبَةِ شَرَفِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى شَرَفِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ .
الْعَاشِرُ :
nindex.php?page=treesubj&link=32406_28446الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ تُدْرِكُ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمَاهِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مَعْرُوضَاتُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَوَّلَ حِكَمِهِ أَنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ، وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ لَا مَحَالَةَ بِتَصَوُّرِ مُسَمَّى الْوُجُودِ وَمُسَمَّى الْعَدَمِ ، فَكَأَنَّهُ بِهَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فَإِنَّهَا لَا تُدْرِكُ إِلَّا الْأَضْوَاءَ وَالْأَلْوَانَ وَهُمَا مِنْ أَخَسِّ عَوَارِضِ الْأَجْسَامِ ، وَالْأَجْسَامُ أَخَسُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ ، فَكَانَ مُتَعَلِّقُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ أَخَسَّ الْمَوْجُودَاتِ . وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ فَهُوَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ ، فَكَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ أَشْرَفَ .