(
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الذي خلقني فهو يهدين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79والذي هو يطعمني ويسقين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وإذا مرضت فهو يشفين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=81والذي يميتني ثم يحيين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=82والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الذي خلقني فهو يهدين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79والذي هو يطعمني ويسقين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وإذا مرضت فهو يشفين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=81والذي يميتني ثم يحيين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=82والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين ، حكى عنه أيضا ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله ، ثم حكى عنه ما سأله عنه ، أما الأوصاف فأربعة :
أولها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الذي خلقني فهو يهدين ) .
واعلم
nindex.php?page=treesubj&link=32501أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=2الذي خلق فسوى nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=3والذي قدر فهدى ) [ الأعلى : 2 ، 3 ] واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=19881_32050الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه ، فلنتكلم في الإنسان فنقول : إنه مخلوق ، فمنهم من قال : هو من عالم الخلق والجسمانيات ، ومن قال : هو من عالم الأمر والروحانيات ، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) [ الحجر : 29 ] فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج ، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر ، وأيضا قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثم أنشأناه خلقا آخر ) [ المؤمنون : 14 ] وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة ، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح ، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية .
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية ، فهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=32688_33679بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث ، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها ، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلا ، وما في كل واحد منها من القوى كاسرا سورة كيفية الآخر ، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار ، وكذا القول في الرطب واليابس ، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي
[ ص: 125 ] تجذب الغذاء ، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية ، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها ، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولا وعرضا ، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك ، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر ، وبعضها فاعلة : إما آمرة : كالشهوة والغضب أو مأمورة : كالقوى المركوزة في العضلات ، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة ، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية ، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها ، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دافعة للمنافي ، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية . أما الخلق فبتصييره موجودا بعد أن كان معدوما ، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدافعة للمضار فثبت أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78خلقني فهو يهدين ) كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين ، ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78خلقني ) فذكره بلفظ الماضي وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78يهدين ) ذكره بلفظ المستقبل ، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا ، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم .
أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية ، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر ، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة ، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة .
وثانيها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79nindex.php?page=treesubj&link=19612_28997_33177_32412والذي هو يطعمني ويسقين ) وقد دخل فيه كل ما يتصل بمنافع الرزق ، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه ، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة ، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما .
وثالثها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وإذا مرضت فهو يشفين ) وفيه سؤال وهو أنه لم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80مرضت ) دون أمرضني ؟ وجوابه من وجوه :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18352_32158_19651_28790كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ، ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم ؟ لقالوا التخم .
الثاني : أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض ، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي . أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها ، وبقاؤها على اعتدالها إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع ، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضا بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطابعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع ، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى ، وما أضاف المرض إليه .
وثالثها : وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=17257_29485الشفاء محبوب وهو من أصول النعم ، وكان مقصود
إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى ، فإن نقضته بالإماتة فجوابه : أن الموت ليس بضرر ، لأن شرط كونه ضررا وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به ، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض ، وأيضا فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض .
ورابعها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=81nindex.php?page=treesubj&link=19612_29485_28997_33679_33177_30336والذي يميتني ثم يحيين ) والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها ، والمراد من الإحياء المجازاة .
وخامسها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=82والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) فهو إشارة إلى
[ ص: 126 ] ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب .
واعلم أن
إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=81وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=82وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=81وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=82وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) .
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى رَبَّ الْعَالَمِينَ ، حَكَى عَنْهُ أَيْضًا مَا وَصَفَهُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهِ ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ ، أَمَّا الْأَوْصَافُ فَأَرْبَعَةٌ :
أَوَّلُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) .
وَاعْلَمْ
nindex.php?page=treesubj&link=32501أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=2الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=3وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) [ الْأَعْلَى : 2 ، 3 ] وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19881_32050الْخَلْقَ وَالْهِدَايَةَ بِهِمَا يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَنَافِعِ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ عَلَيْهِ ، فَلْنَتَكَلَّمْ فِي الْإِنْسَانِ فَنَقُولُ : إِنَّهُ مَخْلُوقٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ ، وَمَنْ قَالَ : هُوَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ ، وَتَرْكِيبُ الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِعْطَاءِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ عَلَى مَا أَخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) [ الْحِجْرِ : 29 ] فَالتَّسْوِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ الْأَمْشَاجِ ، وَنَفْخُ الرُّوحِ إِشَارَةٌ إِلَى اللَّطِيفَةِ الرَّبَّانِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ ، وَأَيْضًا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] وَلَمَّا تَمَّمَ مَرَاتِبَ تَغَيُّرَاتِ الْأَجْسَامِ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّوحِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الرُّوحِ ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِدَايَةِ .
أَمَّا تَحْقِيقُهُ بِحَسَبِ الْمَبَاحِثِ الْحَقِيقِيَّةِ ، فَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32688_33679بَدَنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ عِنْدَ امْتِزَاجِ الْمَنِيِّ بِدَمِ الطَّمْثِ ، وَهُمَا إِنَّمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مَنْ تَرَكُّبِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةَ وَتَفَاعُلِهَا ، فَإِذَا امْتَزَجَ الْمَنِيُّ بِالدَّمِ فَلَا يَزَالُ مَا فِيهَا مِنَ الْحَارِّ وَالْبَارِدِ وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مُتَفَاعِلًا ، وَمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْقُوَى كَاسِرًا سَوْرَةَ كَيْفِيَّةِ الْآخَرِ ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مِنْ تَفَاعُلِهِمَا كَيْفِيَّةً مُتَوَسِّطَةً تَسْتَحِرُّ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْبَارِدِ وَتَسْتَبْرِدُ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْحَارِّ ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ قُوًى مُدَبِّرَةٍ لِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ فَبَعْضُهَا قُوًى نَبَاتِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي
[ ص: 125 ] تَجْذِبُ الْغِذَاءَ ، ثُمَّ تُمْسِكُهُ ثُمَّ تَهْضِمُهُ ثُمَّ تَدْفَعُ الْفَضْلَةَ الْمُؤْذِيَةَ ، ثُمَّ تُقِيمُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بَدَلَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهَا ، ثُمَّ تَزِيدُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ طُولًا وَعَرْضًا ، ثُمَّ يَفْضُلُ عَنْ تِلْكَ الْمَوَادِّ فَضْلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّدَ عَنْهَا مِثْلُ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا قُوًى حَيَوَانِيَّةٌ بَعْضُهَا مُدْرِكَةٌ كَالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَالْخَيَالِ وَالْحِفْظِ وَالذِّكْرِ ، وَبَعْضُهَا فَاعِلَةٌ : إِمَّا آمِرَةٌ : كَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ أَوْ مَأْمُورَةٌ : كَالْقُوَى الْمَرْكُوزَةِ فِي الْعَضَلَاتِ ، وَمِنْهَا قُوًى إِنْسَانِيَّةٌ وَهِيَ إِمَّا مُدْرِكَةٌ أَوْ عَامِلَةٌ ، وَالْقُوَى الْمُدْرِكَةُ هِيَ الْقُوَى الْقَوِيَّةُ عَلَى إِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ ، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا فَتَّشْتَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مُرَكَّبَاتِ هَذَا الْعَالِمِ الْجُسْمَانِيِّ وَمُفْرَدَاتِهَا وَجَدْتَ لَهَا أَشْيَاءَ تُلَائِمُهَا وَتُكْمِلُ حَالَهَا وَأَشْيَاءَ تُنَافِرُهَا وَتُفْسِدُ حَالَهَا ، وَوَجَدْتَ فِيهَا قُوًى جَذَّابَةً لِلْمُلَائِمِ دَافِعَةً لِلْمُنَافِي ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ صَلَاحَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ . أَمَّا الْخَلْقُ فَبِتَصْيِيرِهِ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَبِتِلْكَ الْقُوَى الْجَذَّابَةِ لِلْمَنَافِعِ وَالدَّافِعَةِ لِلْمَضَارِّ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ ، ثُمَّ هَهُنَا دَقِيقَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78خَلَقَنِي ) فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=78يَهْدِينِ ) ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ خَلْقَ الذَّاتِ لَا يَتَجَدَّدُ فِي الدُّنْيَا ، بَلْ لَمَّا وَقَعَ بَقِيَ إِلَى الْأَمَدِ الْمَعْلُومِ .
أَمَّا هِدَايَتُهُ تَعَالَى فَهِيَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كُلَّ حِينٍ وَأَوَانٍ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ هِدَايَةً فِي الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَذَلِكَ بِأَنَّ تَحَكُّمَ الْحَوَاسِّ بِتَمْيِيزِ الْمَنَافِعِ عَنِ الْمَضَارِّ أَوْ فِي الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلِ بِتَمْيِيزِ الْحَقِّ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَنِ الشَّرِّ ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ بِسَائِرِ مَا تَكَامَلَ بِهِ خَلْقُهُ فِي الْمَاضِي دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَأَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِضُرُوبِ الْهِدَايَاتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ .
وَثَانِيهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79nindex.php?page=treesubj&link=19612_28997_33177_32412وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا يَتَّصِلُ بِمَنَافِعِ الرِّزْقِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا خَلَقَ لَهُ الطَّعَامَ وَمَلَّكَهُ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ أَكْلِهِ وَالِاغْتِذَاءِ بِهِ نَحْوَ الشَّهْوَةِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّمْيِيزِ لَمْ تَكْمُلْ هَذِهِ النِّعْمَةُ ، وَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَنَبَّهَ بِذِكْرِهِمَا عَلَى مَا عَدَاهُمَا .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80مَرِضْتُ ) دُونَ أَمْرَضَنِي ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18352_32158_19651_28790كَثِيرًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرَضِ يَحْدُثُ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي مَطَاعِمِهِ وَمَشَارِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْحُكَمَاءُ : لَوْ قِيلَ لَأَكْثَرِ الْمَوْتَى مَا سَبَبُ آجَالِكُمْ ؟ لَقَالُوا التُّخَمُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَرَضَ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِاسْتِيلَاءِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ عَلَى بَعْضٍ ، وَذَلِكَ الِاسْتِيلَاءُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهَا مِنَ التَّنَافُرِ الطَّبِيعِيِّ . أَمَّا الصِّحَّةُ فَهِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ بَقَاءِ الْأَخْلَاطِ عَلَى اعْتِدَالِهَا ، وَبَقَاؤُهَا عَلَى اعْتِدَالِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ ، وَعَوْدُهَا إِلَى الصِّحَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ أَيْضًا بِسَبَبٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُهَا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِاعْتِدَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ بِطَابَعِهَا مُشْتَاقَةً إِلَى التَّفَرُّقِ وَالنِّزَاعِ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَضَافَ الشِّفَاءَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَمَا أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَيْهِ .
وَثَالِثُهَا : وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=17257_29485الشِّفَاءَ مَحْبُوبٌ وَهُوَ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ ، وَكَانَ مَقْصُودُ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْدِيدَ النِّعَمِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مِنَ النِّعَمِ لَا جَرَمَ لَمْ يُضِفْهُ إِلَيْهِ تَعَالَى ، فَإِنْ نَقَضْتَهُ بِالْإِمَاتَةِ فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِضَرَرٍ ، لِأَنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ ضَرَرًا وُقُوعُ الْإِحْسَاسِ بِهِ ، وَحَالَ حُصُولِ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ الْإِحْسَاسُ بِهِ ، إِنَّمَا الضَّرَرُ فِي مُقَدِّمَاتِهِ وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ الْمَرَضِ ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ إِذَا كَمُلَتْ فِي الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ كَانَ بَقَاؤُهَا فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ عَيْنَ الضَّرَرِ وَخُلَاصَتُهَا عَنْهَا عَيْنَ السَّعَادَةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ .
وَرَابِعُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=81nindex.php?page=treesubj&link=19612_29485_28997_33679_33177_30336وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَاتَةُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّخَلُّصُ عَنْ آفَاتِهَا وَعُقُوبَاتِهَا ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِحْيَاءِ الْمُجَازَاةُ .
وَخَامِسُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=82وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى
[ ص: 126 ] مَا هُوَ مَطْلُوبُ كُلِّ عَاقِلٍ مِنَ الْخَلَاصِ عَنِ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ جَمِيعَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ .