( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون    ) 
قوله تعالى : ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون    ) . 
اعلم أن المخاطبين بقوله : ( وآمنوا    ) هم بنو إسرائيل  ويدل عليه وجهان : 
الأول : أنه معطوف على قوله : ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم    ) كأنه قيل : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وآمنوا بما أنزلت . 
الثاني : أن قوله تعالى : ( مصدقا لما معكم    ) يدل على ذلك . 
أما قوله : ( بما أنزلت    ) ففيه قولان ، الأقوى أنه القرآن وعليه دليلان : 
أحدهما : أنه وصفه بكونه منزلا وذلك هو القرآن ؛ لأنه تعالى قال : ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل    ) [ آل عمران : 3 ] . 
والثاني : وصفه بكونه مصدقا لما معهم من الكتب وذلك هو القرآن . وقال قتادة    : المراد ( وآمنوا بما أنزلت    ) من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل . 
أما قوله : ( مصدقا لما معكم    ) ففيه تفسيران : 
أحدهما : أن في القرآن أن موسى  وعيسى  حق ، وأن التوراة والإنجيل حق ، وأن التوراة أنزلت على موسى  ، والإنجيل على عيسى  عليهما السلام ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل  ، فكأنه قيل لهم : إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن ، فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل . 
والثاني : أنه حصلت البشارة بمحمد  صلى الله عليه وسلم  وبالقرآن في التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد  وبالقرآن تصديق للتوراة والإنجيل ، وتكذيب محمد  والقرآن تكذيب   [ ص: 39 ] للتوراة والإنجيل ، وهذا التفسير أولى ؛ لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد  عليه السلام ؛ لأنه بمجرد كونه مخبرا عن كون التوراة والإنجيل حقا لا يجب الإيمان بنبوته ؛ أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد  صلى الله عليه وسلم صادقا ، فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد  صادقا لا محالة ، ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد  صلى الله عليه وسلم ، فثبت أن هذا التفسير أولى . 
واعلم أن هذا التفسير الثاني يدل على نبوة محمد  صلى الله عليه وسلم من وجهين : 
الأول : أن شهادة كتب الأنبياء عليهم السلام لا تكون إلا حقا . 
والثاني : أنه عليه السلام أخبر عن كتبهم ولم يكن له معرفة بذلك إلا من قبل الوحي . 
أما قوله : ( ولا تكونوا أول كافر به    ) فمعناه أول من كفر به أو أول فريق أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به . ثم فيه سؤلان : 
السؤال الأول : كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب ؟ والجواب من وجوه : 
أحدها : أن هذا تعريف بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ؛ ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد  صلى الله عليه وسلم والمستفتحون على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ؛ لقوله تعالى : (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به    ) . [ البقرة : 89 ] . 
وثانيها : يجوز أن يراد : ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة  ، أي ولا تكونوا -وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة والإنجيل- مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له . 
وثالثها : ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب ؛ لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل  ، وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك . 
ورابعها : ولا تكونوا أول كافر به ، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم : أي ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذلك كتابكم ؛ لأن تكذيبكم بمحمد  صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم . 
وخامسها : أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم ؛ وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه ، فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعا واحدا من الدليل ، والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنبا ممن بعده  ؛ لقوله عليه السلام : " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها   " فلما كان كفرهم عظيما وكفر من كان سابقا في الكفر عظيما فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة . 
وسادسها : المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة ؛ لأن كفر قريش  كان مع الجهل لا مع المعرفة . 
وسابعها : أول كافر به من اليهود  ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة  وبها قريظة  والنضير  فكفروا به ، ثم تتابعت سائر اليهود  على ذلك الكفر فكأنه قيل : أول من كفر به من أهل الكتاب  وهو كقوله : ( وأني فضلتكم على العالمين    ) [ البقرة : 47 ] أي على عالمي زمانهم . 
وثامنها : ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه . 
وتاسعها : أن لفظ : " أول " صلة والمعنى ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف . 
السؤال الثاني : أنه كان يجوز لهم الكفر إذ لم يكونوا أولا ، والجواب من وجوه : 
أحدها : أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه . 
وثانيها : أن في قوله : ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم    ) دلالة على أن كفرهم أولا وآخرا محظور . 
وثالثها : أن قوله : ( رفع السماوات بغير عمد ترونها    ) [ الرعد : 2 ] لا يدل على وجود عمد لا يرونها . وقوله : ( وقتلهم الأنبياء بغير حق    ) [ النساء : 155 ] لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق . 
وقوله : عقيب هذه الآية : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا    ) لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير ، فكذا ههنا ، بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول   [ ص: 40 ] الله صلى الله عليه وسلم وصفته    . 
ورابعها : قال  المبرد    : هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم ، فقيل لهم : لا تكفروا بمحمد  فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار ؛ لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم ، وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك ؛ فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة ، وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران : 
أحدهما : السبق إلى الكفر . 
والثاني : التفرد به ، ولا شك في أنه منقصة عظيمة ، فقوله : ( ولا تكونوا أول كافر به    ) إشارة إلى هذا المعنى . 
أما قوله : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا    )  فقد بينا في قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى    ) [ البقرة : 16 ] ، أن الاشتراء يوضع موضع الاستبدال ، فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء والعوض عنه ، فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمنا عند فاعله . قال  ابن عباس  رضي الله عنهما : إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف   وحيي بن أخطب  وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا ، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا  لانقطعت عنهم تلك الهدايا ، فأصروا على الكفر ؛ لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر ؛ وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جدا فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي ، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا ، فالقليل جدا من القليل جدا أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى ؟ واعلم أن هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن ، بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين ، وأما قوله : ( وإياي فاتقون    ) فيقرب معناه مما تقدم من قوله : ( وإياي فارهبون    ) والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقى منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى ؛ لأن تعين العقاب قائم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					