الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : في الدواء المزيل للحسد ، وهو أمران : العلم والعمل . أما العلم ففيه مقامان : إجمالي ، وتفصيلي ، أما الإجمالي فهو أن يعلم أن كل ما دخل في الوجود فقد كان ذلك من لوازم قضاء الله وقدره ؛ لأن الممكن ما لم ينته إلى الواجب لم يقف ، ومتى كان كذلك فلا فائدة في النفرة عنه ، وإذا حصل الرضا بالقضاء زال الحسد . وأما التفصيلي فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا ، وأنه ليس فيه على المحسود ضرر في الدين والدنيا ، بل ينتفع به في الدين والدنيا ، أما أنه ضرر عليك في الدين فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنك بالحسد كرهت حكم الله ونازعته في قسمته التي قسمها لعباده ، وعدله الذي أقامه في خلقه بخفي حكمته ، وهذه جناية على حدقة التوحيد ، وقذى في عين الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنك إن غششت رجلا من المؤمنين فارقت أولياء الله في حبهم الخير لعباد الله ، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : العقاب العظيم المرتب عليه في الآخرة ، وأما كونه ضررا عليك في الدنيا فهو أنك بسبب الحسد لا تزال تكون في الغم والكمد ، وأعداؤك لا يخليهم الله من أنواع النعم ، فلا تزال تتعذب بكل نعمة [ ص: 219 ] تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم ، فتبقى أبدا مغموما مهموما ، فقد حصل لك ما أردت حصوله لأعدائك وأراد أعداؤك حصوله لك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فسعيت في تحصيل المحنة لنفسك .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن ذلك الغم إذا استولى عليك أمرض بدنك وأزال الصحة عنك ، وأوقعك في الوساوس ونغص عليك لذة المطعم والمشرب . وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح ؛ لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، بل ما قدره الله من إقبال ونعمة فلا بد وأن يدوم إلى أجل قدره الله ، فإن كل شيء عنده بمقدار ، ولكل أجل كتاب ، ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ، ولا عليه إثم في الآخرة ، ولعلك تقول : ليت النعمة كانت لي ، وتزول عن المحسود بحسدي ، وهذا غاية الجهل ، فإنه بلاء تشتهيه أولا لنفسك ، فإنك أيضا لا تخلو عن عدو يحسدك ، فلو زالت النعمة بالحسد لم يبق لله عليك نعمة ، لا في الدين ولا في الدنيا ، وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ، ولا تزول عنك بحسد غيرك ، فهذا أيضا جهل ، فإن كل واحد من حمقى الحساد يشتهي أن يختص بهذه الخاصية ، ولست أولى بذلك من الغير ، فنعمة الله عليك في أن لم يزل النعمة بالحسد مما يجب شكرها عليك ، وأنت بجهلك تكرهها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح ، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل بالغيبة ، والقدح فيه وهتك ستره ، وذكر مساوئه ، فهي هدايا يهديها الله إليه ، أعني أنك تهدي إليه حسناتك ، فإنك كلما ذكرته بسوء ، نقل إلى ديوانه حسناتك ، وازدادت سيئاتك ، فكأنك اشتهيت زوال نعم الله عنه إليك ، فأزيلت نعم الله عنك إليه ، ولم تزل في كل حين وأوان تزداد شقاوة ، وأما منفعته في الدنيا فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وكونهم مغمومين معذبين ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد ، بل العاقل لا يشتهي موت عدوه ، بل يريد طول حياته ؛ ليكون في عذاب الحسد ، لينظر في كل حين وأوان إلى نعم الله عليه ، فيتقطع قلبه بذلك ، ولذلك قيل :


                                                                                                                                                                                                                                            لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا منك الذي يكمد     لا زلت محسودا على نعمة
                                                                                                                                                                                                                                            فإنما الكامل من يحسد



                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الناس يعلمون أن المحسود لا بد وأن يكون ذا نعمة ، فيستدلون بحسد الحاسد على كونه مخصوصا من عند الله بأنواع الفضائل والمناقب ، وأعظم الفضائل مما لا يستطاع دفعه ، وهو الذي يورث الحسد فصار الحسد من أقوى الدلائل على اتصاف المحسود بأنواع الفضائل والمناقب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الحاسد يصير مذموما بين الخلق ملعونا عند الخالق ، وهذا من أعظم المقاصد للمحسود .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : وهو أنه سبب لازدياد مسرة إبليس ؛ وذلك لأن الحاسد لما خلا عن الفضائل التي اختص المحسود بها ، فإن رضي بذلك استوجب الثواب العظيم ، فخاف إبليس من أن يرضى بذلك فيصير مستوجبا لذلك الثواب ، فلما لم يرض به بل أظهر الحسد فاته ذلك الثواب واستوجب العقاب ، فيصير ذلك سببا لفرح إبليس ، وغضب الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أنك عساك تحسد رجلا من أهل العلم ، وتحب أن يخطئ في دين الله ، وتكشف خطأه ليفتضح ، وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم ، أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم ، وأي إثم يزيد على ذلك ، وأي مرتبة أخس من هذه .

                                                                                                                                                                                                                                            وقد ظهر من هذه الوجوه أيها الحاسد أنك بمثابة من يرمي حجرا إلى عدوه ليصيب به مقتله فلا يصيبه ، بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها ، فيزداد غضبه ، فيعود ويرميه ثانيا أشد من الأول ، فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميه ، فيزداد غيظه ويعود ثالثا ، فيعود على رأسه فيشجه ، وعدوه سالم في كل الأحوال ، والوبال راجع إليه دائما ، [ ص: 220 ] وأعداؤه حواليه يفرحون به ويضحكون عليه ، بل حال الحاسد أقبح من هذا ؛ لأن الحجر العائد لم يفوت إلا العين ، ولو بقيت لفاتت بالموت ، وأما حسده فإنه يسوق إلى غضب الله وإلى النار ، فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن يبقى له عين ويدخل بها النار ، فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود ، فما أزالها عنه ، ثم أزال نعمة الحاسد تصديقا لقوله تعالى : ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) [ فاطر : 43 ] فهذه الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأ من قلبه نار الحسد ، وأما العمل النافع فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد ، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له ، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ، وإن حمله على قطع أسباب الخير عنه كلف نفسه السعي في إيصال الخيرات إليه ، فمهما عرف المحسود ذلك طاب قلبه وأحب الحاسد ، وذلك يفضي آخر الأمر إلى زوال الحسد من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المحسود إذا أحب الحاسد فعل ما يحبه الحاسد ، فحينئذ يصير الحاسد محبا للمحسود ، ويزول الحسد حينئذ .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الحاسد إذا أتى بضد موجبات الحسد على سبيل التكلف يصير ذلك بالآخرة طبعا له فيزول الحسد عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية