( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون    ) 
قوله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون     ) 
اعلم أن الهمزة في أتأمرون الناس بالبر للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم ، وأما البر فهو اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما ، ومنه عمل مبرور أي قد رضيه الله تعالى ، وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال : بر في يمينه أي صدق ولم يحنث ، ويقال : صدقت وبررت ، وقال تعالى : ( ولكن البر من اتقى    ) [ البقرة : 189 ] فأخبر أن البر جامع للتقوى ، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم ورغبهم في ذلك بناه على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول  ، إذ المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة ، وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه ، فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام . واختلفوا في المراد بالبر  في هذا الموضع على وجوه : 
أحدها : وهو قول السدي  أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونهم عن معصية الله ، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية . 
وثانيها : قول  ابن جريج  أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما . 
وثالثها : أنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد  صلى الله عليه وسلم قالوا : هو صادق فيما يقول ، وأمره حق فاتبعوه ، وهم كانوا لا يتبعونه لطعمهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم . 
ورابعها : أن جماعة من اليهود  كانوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق  ، وكانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره ، فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه ، وهذا اختيار أبي مسلم    . 
وخامسها : هو قول الزجاج  كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة وكانوا يشحون بها ؛ لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت . 
 [ ص: 44 ] وسادسها : لعل المنافقين من اليهود  كانوا يأمرون باتباع محمد  صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه . 
وسابعها : أن اليهود  كانوا يأمرون غيرهم باتباع التوراة ثم إنهم خالفوه ؛ لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد  صلى الله عليه وسلم ، ثم إنهم ما آمنوا به . أما قوله : ( وتنسون أنفسكم    ) فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ، ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه فالمراد بقوله : ( وتنسون أنفسكم    ) أنكم تغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع ، أما قوله : ( وأنتم تتلون الكتاب    ) فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					