المسألة الثالثة : اختلفوا في الأمن المسئول في هذه الآية على وجوه : 
أحدها : سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع . 
وثانيها : سأله الأمن من الخسف والمسخ . 
وثالثها : سأله الأمن من القتل وهو قول  أبي بكر الرازي  ، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولا ، ثم سأله الرزق ثانيا ، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكرارا فقال في هذه الآية : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات    ) وقال في آية أخرى : ( رب اجعل هذا البلد آمنا    ) [إبراهيم : 35] ثم قال في آخر القصة : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع    ) [إبراهيم : 37] إلى قوله : ( وارزقهم من الثمرات    ) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول : لعل الأمن المسئول هو الأمن من الخسف والمسخ ، أو لعله الأمن من القحط ، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة . 
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن مكة  هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم  عليه السلام  أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون : إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه السلام : " إن الله حرم مكة  يوم خلق السماوات والأرض   " وأيضا قال إبراهيم    : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم    ) [إبراهيم : 37] وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك ، ثم إن إبراهيم  عليه السلام أكده بهذا الدعاء . 
وقال آخرون : إنها إنما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم  عليه السلام وقبله كانت كسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام : " اللهم إني حرمت المدينة  كما حرم إبراهيم مكة    " . 
والقول الثالث : إنها كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة . فالأول بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم . والثاني بالأمر على ألسنة الرسل . 
المسألة الخامسة : إنما قال في هذه السورة : ( بلدا آمنا    ) على التنكير وقال في سورة إبراهيم    : ( هذا البلد آمنا    ) [إبراهيم : 35] على التعريف لوجهين : 
الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع    ) [إبراهيم : 37] فقال : ههنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة ، كقولك : جعلت هذا الرجل آمنا . 
الثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدا ، فقوله : ( اجعل هذا بلدا آمنا    ) تقديره : اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، كقولك : كان اليوم يوما حارا ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة ، لأن التنكير يدل على المبالغة ، فقوله : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا    ) معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن ، وأما قوله : ( رب اجعل هذا البلد آمنا    ) [إبراهيم : 35] فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة ، وأما قوله : ( وارزق أهله من الثمرات    ) فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة  أقواتهم ، فاستجاب الله   [ ص: 51 ] تعالى له فصارت مكة  يجبى إليها ثمرات كل شيء ، أما قوله : ( من آمن منهم    ) فهو بدل من قوله : ( أهله    ) يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة ، وهو كقوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    ) [آل عمران : 97] واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوما كفارا بقوله : ( لا ينال عهدي الظالمين    ) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس ، أما النص فقوله تعالى : ( فلا تأس على القوم الكافرين    ) [المائدة : 68] وأما القياس فمن وجهين : 
الوجه الأول : أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته ، قال الله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين    ) فصار ذلك تأديبا في المسألة ، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة ، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم إن الله تعالى أعلمه بقوله : ( فأمتعه قليلا    ) الفرق بين النبوة ورزق الدنيا ، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين ، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار ، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق ، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه ، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه . 
الوجه الثاني : يحتمل أن إبراهيم  عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج ، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					