( 3497 ) مسألة ; قال : ( ومن اعترف بحق ، فصالح على بعضه ، لم يكن ذلك صلحا ; لأنه هضم للحق ) وجملته أن من اعترف بحق وامتنع من أدائه حتى صولح على بعضه ،  فالصلح باطل ; لأنه صالح عن بعض  [ ص: 312 ] ماله ببعض ، وهذا محال ، وسواء كان بلفظ الصلح ، أو بلفظ الإبراء أو بلفظ الهبة المقرون بشرط ، مثل أن يقول : أبرأتك عن خمسمائة ، أو وهبت لك خمسمائة ، بشرط أن تعطيني ما بقي . ولو لم يشترط ، إلا أنه لم يعط بعض حقه إلا بإسقاطه بعضه ، فهو حرام أيضا ; لأنه هضمه حقه . 
قال ابن أبي إسحاق    : الصلح على الإقرار هضم للحق ، فمتى ألزم المقر له ترك بعض حقه ، فتركه عن غير طيب نفسه ، لم يطب الأخذ . وإن تطوع المقر له بإسقاط بعض حقه بطيب من نفسه ، جاز ، غير أن ذلك ليس بصلح ، ولا من باب الصلح بسبيل ، ولم يسم  الخرقي  الصلح إلا في الإنكار ، على الوجه الذي قدمنا ذكره ، فأما في الاعتراف ، فإذا اعترف بشيء وقضاه من جنسه ، فهو وفاء ، وإن قضاه من غير جنسه ، فهي معاوضة ، وإن أبرأه من بعضه اختيارا منه ، واستوفى الباقي ، فهو إبراء ، وإن وهب له بعض العين وأخذ باقيها بطيب نفس ، فهي هبة ، فلا يسمي ذلك صلحا . 
ونحو ذلك قال ابن أبي موسى  وسماه  القاضي  وأصحابه صلحا . وهو قول  الشافعي  وغيره ; والخلاف في التسمية ، أما المعنى فمتفق عليه ، وهو فعل ما عدا وفاء الحق ، وإسقاطه على وجه يصح ، وذلك ثلاثة أقسام ; معاوضة ، وإبراء ، وهبة . 
فأما المعاوضة ، فهو أن يعترف له بعين في يده ، أو دين في ذمته ، ثم يتفقان على تعويضه عن ذلك بما يجوز تعويضه به ، وهذا ثلاثة أضرب أحدها ، أن يعترف له بأحد النقدين ، فيصالحه الآخر ، نحو أن يعترف له بمائة درهم ، فيصالحه منها بعشرة دنانير ، أو يعترف له بعشرة دنانير ، فيصالحه على مائة درهم ، فهذا صرف ، يشترط له شروط الصرف ، من التقابض في المجلس ونحوه . الثاني ، أن يعترف له بعروض ، فيصالحه على أثمان ، أو بأثمان فيصالحه على عروض ، فهذا بيع يثبت فيه أحكام البيع . 
وإن اعترف له بدين ، فصالحه على موصوف في الذمة ، لم يجز التفرق قبل القبض ; لأنه بيع دين بدين . الثالث . أن يصالحه على سكنى دار أو ، خدمة عبد ، ونحوه ، أو على أن يعمل له عملا معلوما ، فيكون ذلك إجارة لها حكم سائر الإجارات ، وإذا أتلف الدار أو العبد قبل استيفاء شيء من المنفعة ، انفسخت الإجارة ، ورجع بما صالح عنه . 
وإن تلفت بعد استيفاء شيء من المنفعة ، انفسخت فيما بقي من المدة ، ورجع بقسط ما بقي . ولو صالحه على أن يزوجه جاريته ، وهو ممن يجوز له نكاح الإماء ، صح . وكان المصالح عنه صداقها ، فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يسقط الصداق ، رجع الزوج بما صالح عنه ، وإن طلقها قبل الدخول ، رجع بنصفها ، وإن كان المعترف امرأة ، فصالحت المدعي على أن تزوجه نفسها ، جاز ولو كان المعترف به عيبا في مبيعها ، فصالحته على نكاحها صح . فإن زال العيب ، رجعت بأرشه ; لأن ذلك صداقها ، فرجعت به ، لا بمهر مثلها . وإن لم يزل العيب ، لكن انفسخ نكاحها بما يسقط صداقها ، رجع عليها بأرشه . 
القسم الثاني ، الإبراء ، وهو أن يعترف له بدين في ذمته ، فيقول : قد أبرأتك من نصفه أو جزء معين منه ، فأعطني ما بقي . فيصح إذا كانت البراءة مطلقة من غير شرط . قال  أحمد    : إذا كان للرجل على الرجل الدين ، ليس عنده وفاء فوضع عنه بعض حقه ، وأخذ منه الباقي  ، كان ذلك جائزا لهما ، ولو فعل ذلك قاض ، لم يكن عليه في ذلك إثم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر ليضعوا عنه ، فوضعوا عنه ، الشطر . 
وفي الذي أصيب في حديقته فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ملزوم ، فأشار إلى غرمائه بالنصف ، فأخذوه منه . فإن فعل ذلك قاض اليوم ، جاز إذا  [ ص: 313 ] كان على وجه الصلح والنظر لهما . 
وروى  يونس  ، عن الزهري  ، عن عبد الله بن كعب  ، عن أبيه ، أنه تقاضى ابن أبي حدرد  دينا كان له عليه في المسجد ، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما ، ثم نادى : { يا كعب    . قال : لبيك يا رسول الله . فأشار إليه ، أن ضع الشطر من دينك . قال : قد فعلت يا رسول الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فأعطه   } . فإن قال : على أن توفيني ما بقي بطل ; لأنه ما أبرأه عن بعض الحق إلا ليوفيه بقيته ، فكأنه عاوض بعض حقه ببعض . 
القسم الثالث ، الهبة . وهو أن يكون له في يده عين ، فيقول قد وهبتك نصفها ، فأعطني بقيتها    . فيصح ، ويعتبر له شروط الهبة . وإن أخرجه مخرج الشرط ، لم يصح . وهذا مذهب  الشافعي    ; لأنه إذا شرط في الهبة الوفاء جعل الهبة عوضا عن الوفاء به ، فكأنه عاوض بعض حقه ببعض . 
وإن أبرأه من بعض الدين ، أو وهب له بعض العين بلفظ الصلح ، مثل أن يقول : صالحني بنصف دينك علي ، أو بنصف دارك هذه . فيقول : صالحتك بذلك    . لم يصح ، ذكره  القاضي   وابن عقيل    . وهو قول بعض أصحاب  الشافعي .  وقال أكثرهم : يجوز الصلح ; لأنه إذا لم يجز بلفظه خرج عن أن يكون صلحا ، ولا يبقى له تعلق به ، فلا يسمى صلحا ، أما إذا كان بلفظ الصلح سمي صلحا ; لوجود اللفظ ، وإن تخلف المعنى ، كالهبة بشرط الثواب ، وإنما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض ، أما مع عدمه فلا . 
وإنما معنى الصلح الاتفاق ، والرضى ، وقد يحصل هذا من غير عوض ، كالتمليك إذا كان بعوض سمي بيعا ، وإن خلا عن العوض سمي هبة . ولنا أن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة ; لأنه إذا قال : صالحني بهبة كذا ، أو على نصف هذه العين ، ونحو هذا . فقد أضاف إليه بالمقابلة ، فصار كقوله : بعني بألف . 
وإن أضاف إليه " على " جرى مجرى الشرط . كقوله تعالى : { فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا    } . وكلاهما لا يجوز ; بدليل ما لو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ المعاوضة . وقولهم : أنه يسمى صلحا . ممنوع ، وإن سمي صلحا فمجاز ; لتضمنه قطع النزاع وإزالة الخصومة . وقولهم : إن الصلح لا يقتضي المعاوضة . قلنا : لا نسلم . 
وإن سلمنا لكن المعاوضة حصلت من اقتران حرف الباء ، أو على ، أو نحوهما به ، فإن لفظة الصلح تحتاج إلى حرف تعدى به ، وذلك يقتضي المعاوضة ، على ما بيناه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					