تلوث البيئة من أخطار التقنية المعاصرة أنها أدت ولا تزال تؤدي إلى تلوث هـائل لمختلف بيئات الأرض، تلوثا كيميائيا وحراريا وإشعاعيا عن طريق ما قذفته ولا تزال تقذفه المصانع وأجهزة التقنيات الحديثة من كميات هـائلة من الإشعاع والحرارة والغازات والنفايات السائلة والصلبة إلى الهواء وإلى مياه الأنهار والبحيرات والبحار، وإلى تربة الأرض. وهذه المواد لها أضرارها المتزايدة على الإنسان بتأثيرها المباشر في بدنه وصحته، وغير المباشر بتأثيرها على الأحياء الحيوانية والنباتية، وبإخلالها بالاتزانات الفطرية (الطبعية) لبيئة الأرض. فمن [ ص: 92 ] المعروف أن التركيب الفطري للغلاف الهوائي للأرض ولكل من مياه الأنهار والبحيرات والبحار ضرورة من ضرورات الوجود الصحي للإنسان والحيوان والنبات. وأي إخلال بالتركيب الفطري لأي من هـذه البيئات الأرضية – بسبب تغير مكوناتها أو بإضافة مواد جديدة إليها بشكل يؤدي إلى حدوث آثار ضارة للحياة – يعتبر تلوثا.
ومن أخطر عوامل تلويث البيئات المعاصرة التلوث الكيميائي بواسطة نواتج إحراق النفط ومشتقاته، والفحم بمختلف أنواعه، ونفايات المصانع الكيميائية بتركيباتها المعقدة وأغلبها من السموم القاتلة للإنسان والحيوان والنبات، ومخلفات البيوت على اختلاف محتوياتها.
أما عن ماكينات الاحتراق من مثل وسائل النقل المتعددة، ومحطات توليد الكهرباء الثابتة والمتحركة والمصانع المختلفة التي تستهلك كميات هـائلة من النفط أو الفحم، فهي المسئولة عن تلوث بيئات الأرض بالعديد من الملوثات مثل: أول أكسيد الكربون ، والهيدروكربونات غير كاملة الاحتراق، وأكسيد النيتروجين ، أما المحطات والمصانع التي تستخدم المازوت وغيره من المنتجات النفطية الثقيلة، فهي مصدر من مصادر تلوث بيئة الأرض بأكاسيد الكبريت وبالعديد من الجسيمات الصلبة.
ومن أخطار أول أكسيد الكربون: شدة ميله للتفاعل مع الهيموجلوبين في خلايا الدم الحمراء أثناء مرورها بشعيرات الرئة، وينتج عن ذلك مركبات معقدة تعوق نسبة كبيرة من الدم عن القيام بدورها في الاتحاد بالأوكسجين لتوزيعه على مختلف أجزاء الجسم. ومن أعراض ذلك: ضيق التنفس إلى حد الاختناق، وتأثر الجهاز العصبي الرئيس، والصداع، والذبحة الصدرية، وقد يؤدي زيادة تركيز نسبة أول أكسيد الكربون في الدم إلى الوفاة.
وتدل القياسات المختلفة على أن نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض التي تبلغ حوالي 0.318% قد ارتفعت بمقدار 15% خلال المائة سنة [ ص: 93 ] الأخيرة، أما أكاسيد النيتروجين – ومنها أول وثاني أكسيد النيتروجين فتنتج عن أكسدة نيتروجين الهواء بواسطة الحرارة العالية لأجهزة الاحتراق الداخلي، وهذه الغازات سامة إذا تعدت تركيزا معينا، وذلك لتأثيرها الضار على القصبة الهوائية في الإنسان وإتلاف الحويصلات الرئوية.
وقد أوضحت دراسات عديدة إن إصابات الجهاز التنفسي في الإنسان تزدد إذا تعرض لهواء به أعلى من 0.05 جم/م.م. بينما التركيز السائد في جو المدن اليوم يتعدى 1 جم/م.م.
كذلك فإن أكاسيد الكبريت تنتج عن احتراق كل من الفحم الحجري ومنتجات النفط، وغالبية أنواعها في صورها الأولية تحتوي على نسب عالية من الكبريت الذي يتأكسد مع الاحتراق إلى ثاني أكسيد الكبريت ، وهذا بدوره يتحول إلى حامض الكبريتيك ، وهو من أقوى الأحماض المعروفة للإنسان، وله قدرة هـائلة على إذابة المواد، مما يؤدي إلى إتلاف أنسجة الكائنات الحية، وإلى تآكل المواد المعدنية والخرسانية والحجرية، واهتراء الأخشاب، وغيرها من الأضرار المادية، كما قد ينتج عن هـذه التفاعلات حبيبات من الكبريتات والكبريتيدات الضارة التي تنتشر في الجو.
وإذا تنفس الإنسان أكاسيد الكبريت بكميات قليلة فإن ذلك يتسبب في تهيج العينين والقصبة الهوائية، أما إذا تعرض لكميات كبيرة من الغاز فقد تتعطل وظيفة الرئة بالكامل؛ لأنه يتسبب في تقليص القصبة الهوائية وانسدادها، والحد الممكن احتماله في الهواء العادي هـو 0.1 جم/م.م بينما الحد الأعلى المسموح به في جو المصانع هـو 5 جم/م.م. وهو تركيز مهيج للأجهزة التنفسية عند معظم الناس.
وبإزالة الكبريت من مختلف صور الوقود الفحمي والنفطي يمكن تجنب بعض أخطار أكاسيد الكبريت في الجو، كذلك يمكن امتصاص هـذه الأكاسيد المنطلقة من مداخن المصانع في معلق الجير الذي يتفاعل معها منتجا كبريتات [ ص: 94 ] الكالسيوم الصلب (أو الجبس) .
ومن الملوثات الضارة كذلك مركبات الرصاص وهي سامة تؤدي إلى اضطراب عملية تكوين الهيموجلوبين في الإنسان.
والرصاص يخرج عادة إلى الجو على هـيئة مركبات غازية مع عادم السيارات نظرا لإضافة بعض مركبات الرصاص (من مثل رابع إيثيل الرصاص ) إلى وقود السيارات كوسيلة من وسائل ضبط احتراقه، ومنذ انتشار استخدام هـذا المركب الكيميائي لاحظ المراقبون ازدياد تلوث الهواء بمركبات الرصاص التي سرعان ما تنتقل من الهواء إلى كل من التربة والماء، فتجد طريقها إلى النبات والحيوانات ثم الإنسان عن طريق التغذية وهو أمر ينذر بالخطر.
كذلك تتسرب مركبات الرصاص إلى مختلف بيئات الأرض عن طريق العديد من الأنشطة الصناعية خاصة التي تتعامل في المواد الكيميائية.
ومن الملوثات الهوائية ذات الخطر الشديد على صحة الإنسان وعلى سلامة الحيوان والنبات وعلى الاتزان البيئي للأرض، تلك الجسيمات الصلبة التي تندفع بغزارة مع المكونات الغازية لدخان المصانع، والتي تكون سحبا سوداء كثيفة في سماء المدن الصناعية، تنطلق من عمليات التعدين والحفر والهدم المختلفة، والتي بتراكمها في الجو تلوثه وتقلل من نفاذية أشعة الشمس إلى الأرض، وبالتالي إلى خفض درجة الحرارة حول الأرض، وقد بذلت محاولات مضنية لتخليص دخان المصانع من جزء من عوالقه الصلبة، وذلك عن طريق إمراره عبر صفائح معدنية مشحونة بالكهرباء تجذب إليها جزءا من تلك الجسيمات الصلبة قبل إطلاقه إلى الهواء، ولكن وجد أن العملية باهظة التكاليف.. كذلك بذلت محاولات أخرى لتقليل أثر تلوث البيئة بدخان المصانع، وذلك عن طريق زيادة طول المداخن زيادة كبيرة للمساعدة على انتشار دخانها في مستويات مرتفعة نسبيا من الغلاف الغازي للأرض. ولعل مما يساعد على ذلك شدة ارتفاع درجة حرارة الدخان ذاته، وإن كان الأثر لا ينفك من عودته للأرض التي تعتبر نظاما [ ص: 95 ] مغلقا بغلافيها المائي والهوائي.
وهذه الملوثات غيض من فيض كثير لا يتسع المقام لسرده في هـذه الحالة. وهي تتفاوت تفاوتا كبيرا في تأثيرها على صحة الإنسان وفي الإخلال بالتوازن البيئي اللازم لاستمرارية الحياة على الأرض، فأكاسيد الكبريت مثلا أشد خطرا من أكاسيد الكربون، ولكن آثار هـذه الملوثات لا تتوقف على مجرد زيادة كمياتها في الهواء والماء والتربة وفي أجساد الإنسان والحيوانات والنبات، بل يتعدى ذلك إلى تشابك هـذه التأثيرات بصورة معقدة للغاية يعاضد فيها المركب من هـذه الملوثات المركب الآخر، مما يهدد الإنسان وغيره من الأحياء بخطر كبير، ويهدد الاتزان البيئي للأرض بالانهيار.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن خطر أكاسيد الكبريت في الهواء يزداد حدة بزيادة نسبة الجسيمات الصلبة فيه، مما يؤدي إلى امتصاص هـذه الغازات الكبريتية على سطح الجسيمات الصلبة وتحويلها إلى حمض الكبريتيك أو تفاعلها معها إلى الكبريتيدات أو الكبريتات، وعلى ذلك، فإن حصة السيارات والشاحنات وغيرها من وسائل النقل في تلويث الهواء لا تتوقف عند حدود أكاسيد الكربون والكبريت والهيدروكربونات غير تامة الاحتراق ومركبات الرصاص، بل تتعدى ذلك إلى ما تثيره من غبار، وما ينتج عن تآكل كل من الإطارات وأسطح الطرق وصفائح الكابحات (الفرامل) من ملوثات صلبة، وقد دلت الدراسات على أن وسائط النقل المختلفة تتسبب بطرق مباشرة وغير مباشرة في حوالي 30% من الغبار المعلق بالهواء في أجواء المدن، وقد تتفاعل هـذه المكونات مع بعضها كما سبق أن أشرنا منتجة مركبات أخرى في سلاسل متتالية تكون غاية في التعقيد والخطر على صحة الأحياء.
ولم يهتم المسؤولون اهتماما كبيرا بقياس معدلات التلوث في أجواء المدن الصناعية والمكتظة بالسكان حتى كان شتاء 1952م، حين سادت حالة من الركود جو مدينة لندن لعدة أيام تجمعت خلالها أدخنة وأبخرة المصانع في جو المدينة على هـيئة ضباب راكد ملوث تسبب في وفاة حوالي أربعة آلاف شخص.
وقد استمر هـذا التلوث في جو المدنية مدة زادت على الخمسة عشر يوما [ ص: 96 ] بعد زوال حالة الركود الجوي، كما تكررت نفس الظاهرة عدة مرات في تاريخ المدينة ذاتها، كما من أشدها ما حدث بعد ذلك بعشر سنوات في شتاء سنة 1962م، كما حدث في العديد غيرها من المدن الصناعية.
وأضرار هـذا الضباب الملوث كثيرة خاصة على الجهازين التنفسي والدوري للإنسان وللحيوان، كما تمتد أضراره إلى النباتات، وذلك بسبب السلاسل الطويلة من التفاعلات الكيميائية التي تدخل فيها أعداد كبيرة من الملوثات في جو مشحون بالرطوبة، ومعرض لأشعة الشمس التي تعين على عدد من التفاعلات الكيميائية الضوئية تدخل فيها مركبات النيتروجين وينطلق منها الأكسجين الذري الذي يتفاعل مع الهيدروكربونات غير كاملة الاحتراق والمنتشرة بالجو (عن طريق عادم السيارات وغيرها من وسائط النقل، أو عن طريق التبخير من محطات توزيع الوقود، وورش إصلاح السيارات، أو المتسربة من خزانات النفط الطبيعية عبر العديد من الشقوق الأرضية، ليعطي عددا كبيرا من المواد السامة البالغة الأذى.
ومن أشد منتجات التقنية الحديثة فتكا بالإنسان والحيوان والنبات، وهدما للاتزان البيئي للأرض، تلك الإشعاعات الناتجة عن تحلل النظائر المشعة التي بدأت دائرة استخدامها تتسع بانتشار المفاعلات النووية في كل من الصناعات الحربية وغير الحربية، ولدى المؤسسات الحكومية وغير الحكومية من أجل إنتاج الأسلحة النووية والهيدروجينية، أو إنتاج الطاقة الكهربائية، أو في العديد من الاستخدامات الطبية والزراعية، والبحوث العلمية والصناعية المتطورة على تعدد أهدافها.
ومن نتاج هـذه التقنية المتطورة مخزون مفزع من الرءوس والقنابل النووية والهيدروجينية تزخر بها مخازن السلاح وقواعده لدى القوى المتصارعة في العالم، وتمخر بها الغواصات النووية عباب البحار والمحيطات في كل وقت، وتشحن بها الطائرات العملاقة التي تغلف بدورانها الأرض على مدار الساعة، وتتوج بها رءوس الصواريخ المختلفة المدى (وفيها العابرة للقارات والمحدودة [ ص: 97 ] المسافات) ، والموجهة في كل اتجاه على اليابسة والماء.
ومنها محطات توليد الكهرباء بواسطة الطاقة النووية التي انتشرت انتشارا مفزعا في الدول الصناعية، والتي بدأت بعض الدول الإسلامية (مثل مصر ) في محاولة استجلابها على الرغم من أخطار تسرب الإشعاع والحرارة منها، وعلى الرغم من صعوبة صيانتها حتى في الدول المتقدمة علميا وتقنيا.
ومنها المحركات النووية لكل من القطارات والغواصات والطائرات، والتي بدأت أيضا في الانتشار خلال السنوات القليلة الماضية انتشارا يثير الكثير من المخاوف.
ومنها المخزون الضخم من المواد المشعة في مراكز البحوث المختلفة، ولدى الشركات المختصة بإنتاج النظائر المشعة ومركباتها للاستخدامات الطبية والزراعية، وفي مجال الهندسة الجينية (هندسة المورثات أو حاملات الوراثة) للمفاعلات النووية – بالإضافة إلى مخاطر تسرب الإشعاعات النووية – مخاطر أخرى كثيرة، منها: الكميات الهائلة من الحرارة والضغط المتولدة عنها، والمعدلات العالية لتآكل الأجهزة والأبنية الحاوية للمواد النووية المتفاعلة، وللجسيمات المتسارعة والناتجة عن هـذه التفاعلات المعقدة والتي ليس من اليسير التحكم فيها.
وحوادث مفاعل تشيرنوبل بالاتحاد السوفييتي ، ومفاعل جزيرة الأميال الثلاثة (ثري مايلز آيلاند) بالولايات المتحدة ، ومفاعل اسكتلنده بشمال غربي الجزائر البريطانية ليست ببعيدة ولا غائبة عن الأذهان.
ومن نواتج تقنية المواد المشعة كذلك تلك الأجهزة المتعددة والمعروفة باسم " معجلات الجسيمات الذرية " – أو المعجلات على تبيان المسميات الأخرى لها – والتي بدأت تنتشر انتشارا كبيرا لاستخدامها في تعجيل سرعات الجسيمات المنطلقة من الذرة بمعدلات رهيبة، وطاقات عالية جدا، وتستخدم [ ص: 98 ] هـذه الجسيمات المعجلة على هـيئة أحزمة من أشعة إكس أو أشعة جاما في العديد من البحوث العملية، والمعالجات الطبية، وفي التصوير من خلال الأجسام الحية أو المواد الصلبة (من مثل: تصوير مختلف أجزاء الأجسام الآدمية) .
وهذه المعجلات لم يعد استخدامها مقصورا على الجامعات ومراكز البحث العلمي الكبرى، والمصحات الطبية المختلفة، بل انتشرت انتشارا واسعا في الصناعة (من مثل: صناعات اللدائن، أو البلاستيك، وفي الصناعات الكيميائية المختلفة من أجل تنشيط بعض العمليات الكيميائية، وفي تعقيم وحفظ المواد الطبية والغذائية، وفي قياس سمك المواد على تباين أشكالها، وقياس مستوى السوائل في خزاناتها، وفي أجهزة التخلص من الكهربية الثابتة أو الإستاتيكية، وفي أبحاث كل من تآكل المواد وبلاها، أو ما يعرف باسم "التآكل والبلى"، وفي صناعة المنظفات ودراسة تأثيرها على مختلف المواد، وغير ذلك) .
كذلك تستخدم النظائر المشعة اليوم بكثرة في العديد من أعمال التتبع العلمية، والطبية، والصناعية، والزراعية؛ وذلك لسهولة إدراكها عن طريق ما تصدره من إشعاعات (من مثل: تحديد مجاري المياه تحت السطحية، وتحرك السوائل في أجساد الكائنات الحية، وغير ذلك) ، بل تعدت هـذه الاستخدامات إلى أعمال الهواة من مثل: البحث عن الكهوف والآثار والثروات القديمة والأجهزة المتعددة المستخدمة كذلك.
ولا تتوقف أخطار النظائر المشعة على ما تصدره من أحزمة الجسيمات الأولية للذرة وغيرها من صور الإشعاع، وكلها قاتلة إذا تعرضت لها أجساد الكائنات الحية بكميات تتجاوز قدرات احتمالها، ولكن ذلك الخطر يبلغ مداه في عدم قدرة الحواس على إدراك أي من هـذه الأشعة، ومنها أشعة جاما، وأحزمة النيوترونات، وأشعة بيتا ثم أشعة ألفا (حسب الترتيب التنازلي لخطرها) . ولكل منها قدرة تدميرية هـائلة على الخلايا الحية، فلا يتحمل الإنسان أن يتعرض لأكثر من 0.3 رونتجن من أشعة جاما على مدى أسبوع كامل، أو لأكثر [ ص: 99 ] من 25 رونتجن دفعة واحدة.
وعدم قدرة الحواس على أدراك نواتج تحلل النظائر المشعة يعرض الكائن الحي لأخطارها على فترات طويلة دون أن يشعر بذلك حتى يفاجأ بآثارها التدميرية على خلايا جسده.
ويزيد من أخطار تقنية الإشعاع، وانتشار أدواتها ما يمكن أن تتعرض له المفاعلات والمعجلات وغيرها من الأجهزة الحاوية للنظائر المشعة للانفجار أو الحريق، مما قد يؤدي إلى سرعة انطلاق النظائر المشعة ونواتج تفككها المختلفة إلى جو الأرض، إما بالانتشار مباشرة أو بالتبخر، حيث يعجز الإنسان عن إيقاف آثارها بسبب طول العمر لهذه النظائر المشعة – والذي يمتد في بعضها إلى بلايين السنين – وقد بدأت نسبة الإشعاع في مختلف بيئات الأرض في الزيادة بصورة تنذر بالخطر، وتعرف بظاهرة التلوث الإشعاعي للبيئة، وربما كان لذلك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بزيادة معدلات الإصابة بالأورام السرطانية في هـذا العصر.
ومن الآثار الجانبية الخطيرة للمبالغة في استخدام تقنيات النظائر المشعة، حجم ما يتخلف عنها من نفايات، وصعوبة التخلص منها، فنفايات المفاعلات والمعجلات النووية العديدة المنتشرة فوق أرض دول الشمال الغنية لا تجد مكانا لدفنها أنسب من أراضي دول العالم الثالث الفقيرة أو قيعان البحار والمحيطات، وفي كلتا الحالتين لا تعدم هـذه النفايات المهلكة فرصة البروز إلى السطح والانفجار وتلويث الأرض، بهوائها، ومياهها، وتربتها، ومختلف صور الحياة فيها، بصورة لا يمكن التكهن بحجم الكوارث المصاحبة لها!
ومن تلك الآثار الجانبية ما ينتج عن هـذه العمليات الإشعاعية من حرارة خاصة من المفاعلات العملاقة ومن محطات توليد الكهرباء باستخدام الطاقة النووية، وأغلب هـذه الحرارة تنطلق إلى الجو أو توجه إلى الأجسام المائية المجاورة، على ما لذلك من أخطار محدقة بأحياء هـذه الأوساط المائية وتلويث عام للبيئة. [ ص: 100 ]
وهنا لا يمكن إغفال الكميات الهائلة من الحرارة التي أطلقتها ولا تزال تقذف بها المصانع المختلفة، والتي أخذت أعدادها في التزايد بصورة مطردة منذ مطلع الثورة الصناعية الأولى، ومحطات توليد الكهرباء التقليدية والنووية، ومراكز تحلية مياه المتعددة، وحرائق الغاز الطبيعي في مناطق حقول البترول ومصافي تكريره، والمراجل المتنوعة، ووسائل النقل المختلفة، وكل صور أجهزة الاحتراق الداخلي والخارجي، وغيرها من الآلات الحرارية والنووية، مما أدى إلى رفع درجة حرارة كل من الغلافين الهوائي والمائي للأرض بصورة ضارة تعرف اليوم بظاهرة التلوث الحراري لبيئات الأرض.
فكل آلة احتراق عاملة على سطح الأرض تطرح جزءا من طاقتها الحرارية (يزداد بصورة مطردة مع زيادة حجمها، وقد يصل إلى أكثر من 60% من طاقتها الحرارية) إلى كل من الغلافين الهوائي والمائي للأرض، مما يؤدي إلى رفع درجة حرارة كل منهما، وإلى اختلال التوازن البيئي فيهما، والتأثير على الأحياء بصفة عامة وعلى الأحياء المائية بصفة خاصة؛ وذلك لأن قدرة الماء الدافئ على إذابة الأوكسجين أقل من قدرة الماء البارد، بينما يزداد معدل الأيض عند الأحياء بصفة عامة، وعند الأحياء المائية بصفة خاصة، مع ارتفاع درجة الحرارة، مما يزيد حاجتها للأوكسجين الذي لا يتوفر في الماء الدافئ الذي تحيا فيه فتضطر إلى الهجرة أو إلى عدم القدرة على النمو الكامل (ظاهرة التقزم) ، أو إلى الموت، وذلك لعدم مواءمة البيئة الدافئة لها.
وإذا استمر معدل الزيادة في إنتاج وإحراق مصادر الطاقة المتنوعة، وفي انتشار التصنيع بمعدلاته الحالية فمن المتوقع أن يرتفع متوسط درجة حرارة الأرض إلى الحد الذي يحدث خللا واضحا في الظروف المناخية والطبيعية العامة للأرض. ومن أخطر نتائجها: انصهار كميات هـائلة من الجليد المتجمع فوق المنطقتين القطبيتين، وعلى قمم الجبال المرتفعة، وانصهار ذلك لا يحتاج إلى أكثر من أربعة درجات مئوية فوق متوسط درجة حرارة الأرض، ولا يخفى على عاقل ما يمكن أن يؤد إليه ذلك من ارتفاع خيالي لمنسوب المياه في البحار [ ص: 101 ] والمحيطات، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من إغراق وغمر لمعظم مراكز الحضارة المعاصرة التي تنتشر في السهول الساحلية والمنخفضة.
وليس هـذا فحسب، بل إن التزايد المطرد لنسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض منذ مطلع الثورة الصناعية الأولى، والناتج عن التزايد المستمر في حرق كميات هـائلة من الفحم والنفط والغازات الطبيعية المستخدمة كوقود، وغير ذلك من الأنشطة التقنية المتزايدة للإنسان، قد أدى إلى خلل واضح في الاتزان البيئي لغلاف الأرض الغازي، ولا يزال يعمل على مزيد من الإخلال به، وهو المتميز باتزان بيئي بالغ الدقة.
ومن سمات ذلك الخلل: التغير الواضح في مناخ الأرض، وفي زيادة تلوث الهواء، واختلال النسبة الفطرية لمختلف الغازات فيه، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تفاعلات كيميائية ضارة، وانعكاسات صحية خطيرة.
وقد بلغ المتوسط السنوي لزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض 0.4%، وذلك في الفترة من 1950م إلى 1970م، ومن المنتظر أن تصل في نهاية القرن الحالي إلى 6%، إذا أخذنا بعين الاعتبار معدلات التزايد المطرد في استخدامات الوقود منذ سنة 1970م، وإلى نهاية هـذا القرن الميلادي، ويتضح خطر هـذه النسبة بمقارنتها بمتوسط تركيز ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض الطبيعي، والذي يبلغ 0.0318%، والذي ظل لعشرات الآلاف من السنين ثابتا، وفي حالة من الاتزان الدقيق مع ما تنفثه الأحياء، وتقذف به البراكين إلى الجو، وما تمتصه أو تفقده مياه البحار والمحيطات، وما يتجمع فوق قيعانها من رسوبيات، يتبادل مع صخور القشرة الأرضية أثناء عمليات التجوية المختلفة. فالنباتات تستهلك كميات هـائلة من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض أثناء قيامها بعملية التمثيل الضوئي ، وتطلق كميات أخرى منه مع بقية الأحياء في عملية التنفس، وهذه تنطلق مباشرة إلى الهواء أو إلى الماء، كما تنطلق بعد موت الكائنات الحية وتحلل أجسادها، كذلك فإن مياه البحار والمحيطات قد تأخذ من الجو أو تعطيه [ ص: 102 ] كميات منضبطة من ثاني أكسيد الكربون، ليتم اتزان محكم في تبادل ذلك الغاز بين الهواء والماء وقشرة الأرض والأحياء، يؤدي في النهاية إلى ثبات نسبته في الهواء الطبيعي.
وتحتوي مياه البحار والمحيطات، وما يتجمع فوق قيعانها من رسوبيات على كمية من ثاني أكسيد الكربون ، تزيد عما في جو الأرض بخمسين ضعفا (وذلك على هـيئة غاز مذاب، أو متحد في البيكربونات الذائبة والكربونات المترسبة من مياهها) ، وتتبادل البحار والمحيطات مع الغلاف الغازي للأرض ما لا يقل عن مائتي بليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون سنويا في اتزان غاية في الإعجاز، ليبقى تركيزه في الغلاف الغازي ثابتا، ولكن إذا حدث إخلال بهذا الاتزان الفطري من جانب الإنسان – وهو المستخلف في الأرض – فقد تقذف المحيطات من جوفها إلى جو الأرض بلايين الأطنان من هـذا الغاز أو تبتلع من الجو أضعاف ذلك.
وينتج عن تزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض أخطار عديدة منها: أن هـذا الغاز له قدرة هـائلة على امتصاص الأشعة تحت الحمراء، مما يؤدي إلى رفع درجة حرارة الغلاف الغازي للأرض بصورة تشبه ما يحدث بداخل الصوب الزجاجية المعدة لتربية النباتات، ومن هـنا فقد أطلق على هـذه الظاهرة اسم "ظاهرة البيت الزجاجي" وهي تؤدي إلى زيادة التلوث الحراري للبيئة الأرضية، خاصة وأن غاز ثاني أكسيد الكربون أعلى كثافة من باقي المكونات الغازية للهواء الجوي مما يؤدي إلى تركيزه قريبا من سطح الأرض، ويزيد بالتالي من قدرته كحاجز حراري حولها. وعلى العكس من ذلك فإنه إذا قلت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الغازي للأرض زاد معدل تسرب حرارة الأرض إلى الطبقات العليا من الجو، فينتج عن ذلك نشاط في تيارات الحمل، نظرا لتفاوت درجات الحرارة بين التيارات الحارة الصاعدة من الأرض والتيارات الباردة الهابطة من طبقات الجو العليا، مما يؤدي في النهاية إلى برودة طبقات الهواء الملامسة للأرض، وإلى زيادة كثافة السحب، واحتمالات [ ص: 103 ] سقوط الأمطار، كذلك قد تؤدي الزيادة الكبيرة في كثافة السحب إلى عكس جزء من أشعة الشمس القادمة إلى الأرض مما ينتج عنه تبرد تدريجي في الجو العام حول الأرض، ويشجع على زحف الجليد من القطبين في اتجاه خط الاستواء، ومن قمم الجبال العالية في اتجاه سفوحها، وربما كان ذلك أحد الأسباب الرئيسة لتبادل ظواهر زحف الجليد وانصهاره على فترات متباعدة من تاريخ الأرض الطويل.
وكما سبق أن أشرنا فإن لكل من النشاط الحيوي، والنشاط البركاني، وعمليات تعرية الصخور وتكوين الرسوبيات أثره الكبير في توازن دورة ثاني أكسيد الكربون في بيئات الأرض المختلفة، ولكن منذ بداية الثورة الصناعية دخلت على تلك الدورة عوامل جديدة، منها: إحراق ملايين الأطنان من الفحم والنفط والغازات الطبيعية يوميا، وتضاعف أعداد الكائنات الحية أضعافا كثرة، وتوسع النشاطات الصناعية والعمرانية توسعا مذهلا، مما أطلق إلى الجو – ولا يزال – بكميات من ثاني أكسيد الكربون تفوق بكثير ما تستهلكه عمليات التمثيل الضوئي بواسطة النباتات، والإذابة بواسطة مياه البحار والمحيطات، والتثبيت في هـياكل الحيوانات وفي صخور الكربونات.
وعلى ذلك فإن الزيادة المطردة في نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض لا بد وأن يؤدي – بالإضافة إلى زيادة نسبة التلوث وما ينتج عن ذلك من إضرار بصحة الإنسان والحيوانات والنبات – إلى الارتفاع المستمر في درجة حرارة الغلاف الغازي للأرض، مما ينتج عنه انصهار تدريجي للجليد المتجمع فوق القطبين وعلى القمم الجبلية المرتفعة، وارتفاع في منسوب المياه في البحار والمحيطات وغمر لمراكز الحضارة المعاصرة كما سبق وأن أسلفنا.
كذلك فإن من أضرار الزيادة في نسبة ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الغازي للأرض، وما يتبع ذلك من زيادة تركيزه في مياه البحار والمحيطات: رفع درجة حموضة هـذه المياه وإفساد اتزانها البيئي، وانعكاسات ذلك كله على ما بها من أحياء. [ ص: 104 ]
ومن رحمة الله تعالى أن متوسط درجة حرارة الأرض ظل في ارتفاع مستمر بمعدلات طفيفة طوال الفترة من سنة 1860م إلى سنة 1945م، ثم أخذ بعد ذلك في الانخفاض، ولو استمرت هـذه المعدلات في الارتفاع لسببت ضيقا شديدا للإنسان، وهلاكا لكثير من صور الحيوان والنبات.
ولم يستطع العلماء تفسير ظاهرة الانخفاض في درجة حرارة جو الأرض على الرغم من شدة التلوث الحراري والإشعاعي، وتزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو، إلا بافتراض أن الأرض تتجه نحو دورة جليدية جديدة كتلك الدورات التي حدثت من قبل في تاريخها الطويل، وكان آخرها في الفترة من 1.8 مليون سنة مضت وحتى عشرة آلاف سنة مضت.
وهذا الافتراض يناقض ما ينادي به أنصار "ظاهرة البيت الزجاجي" الذي يحذرون من اطراد تزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض، وآثار ذلك على رفع درجة حرارته وزيادة تلوثه.
وهذا الخلاف يجسد صعوبة إلمام الإنسان بكل أبعاد عملية تلوث البيئة بمخلفات النشاطات الصناعية والتقنية المختلفة والمتزايدة والمعقدة، تلوثا كيميائيا، وحراريا، وإشعاعيا، والذي له انعكاساته المختلفة على جميع صور الحياة فوق كوكبنا الأرض، وعلى اتزان بيئاتها، وربما كان ذلك هـو أخطر ما في الأمر، فقد تنكشف لنا مشاكل في المستقبل القريب لا نشعر بآثارها الآن، وقد لا يتم ذلك إلا بعد فوات الفرصة لدرء أخطارها، وقد لا نرى اليوم خطرا في نقص المواد التي تدفع بها مداخن ومصارف المصانع المختلفة إلى أغلفة الأرض الهوائية والمائية والصخرية، ثم نكشف آثارها المدمرة بعد فوات الأوان.
وللتدليل على ذلك يمكن أن نشير إلى ما بدأت تدركه الأوساط العملية مؤخرا من آثار خطيرة على البيئة لكل من الصواريخ والطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، ولغازات التبريد المعروفة باسم "الفريون" والتي شاع [ ص: 105 ] استخدامها في أجهزة التبريد والتجميد المختلفة (من مثل: مكيفات الهواء، والمبردات والثلاجات) ، كما شاع تداولها في العديد من معلبات الرش ) (من مثل: علب المبيدات الحشرية، ومصففات الشعر، ومساحيق الحلاقة) .
وترجع أخطار ذلك إلى ما تسببه عوادم الطائرات والصواريخ، وكذلك غاز الفريون المتسرب إلى الجو من تحلل في طبقة الأوزون، مما يؤدي إلى وجود مناطق ضعف فيها مما قد يعرض الحياة على الأرض إلى أضرار جسيمة، وتنتشر طبقة الأوزون (أ3) في الغلاف الغازي للأرض إلى ارتفاع خمسة وأربعين كيلومترا من سطحها، وتصل أعلى درجات تركيز هـذا الغاز على ارتفاع خمسة وعشرين كيلومترا تقريبا من سطح الأرض.
وطبقة الأوزون هـذه هـي التي تقوم بحماية الحياة الأرضية من الأشعة فوق البنفسجية القاتلة القادمة من الشمس، كما تقوم بضبط توزيع درجات الحرارة في الغلاف الغازي للأرض، وذلك بتحويل بعض الأشعة فوق البنفسجية التي تقوم بامتصاصها إلى طاقة حرارية.
والطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت تطير على ارتفاع يقارب العشرين كيلومترا فوق سطح الأرض، أي في وسط التركيز الأعلى لطبقة الأوزون، وهذه الطائرات تنفث في نطاق الأوزون الأمثل هـذا كميات هـائلة من عوادم الاحتراق، ومن أخطرها أكاسيد النيتروجين التي تختزل الأوزون (أ3) إلى الأوكسجين (أ2) ، مما يؤدي إلى تضاؤل تركيز الأوزون إلى حد الاختفاء، ودخول المزيد من الأشعة فوق البنفسجية إلى سطح الأرض.
أما الصواريخ فإنها تخترق كل طبقة الأوزون وتؤدي إلى نفس النتيجة تقريبا على الرغم من الفارق الهائل بين أعدادها وأعداد الطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
كذلك فإن تسرب كميات من غازات التبريد والرش (الفريون) على اختلاف تركيبها إلى جو الأرض، وارتفاعها إلى طبقات الجو العليا يؤدي بطبقة [ ص: 106 ] الأوزون إلى نفس المصير. فغازات الفريون هـي أخلاط متفاوتة النسب من الكلور والفلور والميثان، وهي تتفكك إلى مكوناتها الأساسية في طبقات الجو العليا ملوثة إياها، ومفككة ما بها من الأوزون إلى الأوكسجين، وأخطر ما في مكونات الفريون هـو غاز الكلور الذي ينطلق في حالة ذرية نشطة تؤدي إلى تدمير طبقة الأوزون.
وباستمرار انطلاق الصواريخ السلمية إلى الفضاء، فضلا عن صواريخ القتال، والطائرات العادية، فضلا عن فوق الصوتية، وانطلاق كميات غير محدودة من عوادمها، بالإضافة إلى ما تطلقه ملايين السيارات والشاحنات والقطارات والبواخر، ووسائل النقل الأخرى، ومداخن المصانع ومحطات توليد الكهرباء، ومراكز تحلية المياه، وغيرها من الأنشطة الصناعية والعمرانية، وكذلك باستمرار تسرب كميات متزايدة من غازات التبريد والرش إلى جو الأرض، فإن طبقة الأوزون – وهي التي جعلها ا لله تعالى درعا واقيا للأرض من الأشعة فوق البنفسجية المهلكة – سوف تتعرض للتحلل المستمر الذي يؤدي إلى شدة إضعافها أو زوالها مما يعرض أحياء الأرض – وفي مقدمتها الإنسان – لهلاك محقق، يسبقه انتشار لأنماط من الأمراض عرفها ولم يعرفها الإنسان من قبل، خاصة وأن عددا من الدراسات يشير إلى أن تأثير الطائرات قد يؤدي إلى تحلل 10 إلى 15% من طبقة الأوزون بانتهاء هـذا القرن (أي بعد اثنتي عشرة سنة تقريبا) ، وأن الإسراف في استخدام غازات التبريد والرش قد يزيد هـذه النسبة إلى 25% بعد ذلك بخمسين عاما (أي بحلول عام 2050م) .
هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من العلماء يتوقعون أيضا أنه باستمرار تلويث الغلاف الغازي للأرض يمكن أن تبدأ سلاسل من الظواهر الجوية الغريبة من مثل "ظاهرة خطوط التكثف" التي تتكون نتيجة لمرور الطائرات النفاثة في طبقات الجو العليا، وخروج عوادم احتراق الوقود منها في درجات حرارة عالية، واصطدامها ببرودة الجو المحيط فتتكثف مكونة سحابة صنعية مركزة، ولكنها تتلاشى بسرعة. وبتكاثر حركة هـذه الطائرات النفاثة يمكن أن تتحول [ ص: 107 ] هـذه السحابات المؤقتة إلى سحابات دائمة تحجب جزءا من أشعة الشمس، وتؤدي إلى تأثيرات مناخية غير متوقعة لا يستطيع العلم اليوم أن يقدر مدى خطورتها.
وعلى الرغم من المعارضات الشديدة لانتشار الطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وتحريم نزولها في العديد من المطارات الدولية، فإننا نجد مطارا صغيرا في بعض الدول العربية الصغيرة يقبل ذلك ويفتخر به.
وعلى الرغم من صدور العديد من الأحكام القضائية في كثير من الدول الصناعية بتحريم استخدام غازات التبريد في علب الرش المختلفة، فإننا لا نزال نجدها منتشرة في مختلف الأسواق المحلية والدولية.
وعلى الرغم من التحذيرات المتعالية من مختلف العلماء المهتمين بالبيئة، والجماعات والأحزاب المتعاطفة معهم، فإن الغالبية العظمى من دول العالم لم تعر الأمر أدنى من الاهتمام، على الرغم من تفاقمه إلى الحد الذي يقرر فيه علماء البيئة أنه حتى لو تم توقف إطلاق هـذه الغازات إلى الجو بتشريع دولي ملزم، فإن ما تم إطلاقه حتى اليوم يمكن أن يبقى أثره في الغلاف الغازي للأرض لفترة تتراوح بين خمسين وسبعين سنة أخرى لا يتوقف خلالها تحلل طبقة الأوزون بمعدلات تنذر بالخطر.
هذا الموقف المتشائم من مفاسد التقنية الحديثة وآثارها المدمرة على مختلف البيئات الأرضية، يرد عليه المدافعون عن ضرورة الاستمرار في عملية التقدم العلمي والتقني بأن في الكون قوى عديدة تعمل على حفظ اتزانه باستمرار مهما اضطربت المتغيرات فيه، وأن لكل من الإنسان والحيوان والنبات قدرات هـائلة على التكيف مع المتغيرات الجديدة في البيئة مهما تعقدت، وهذا القول – الذي لا يخلو من شيء من الصحة – لا يمكن إطلاقه على عواهنه؛ لأن لقدرات الحياة على التكيف حدودا، وللسنن الكونية في ضبط الاتزان البيئي حدودا كذلك، ولا يمكن الانطلاق في تدمير البيئة وما فيها من صور الحياة استنادا إلى القول الساذج بأن الطبيعة تصلح ما يفسده الإنسان، خاصة إذا تمادى في [ ص: 108 ] غيه، وبالغ في سوء استخدامه لقدرات عقله وفكره، ولم يرع ما قد استخلف فيه حق رعايته، فأفرط وفرط، وأهدر واستنزف، ولوث الماء والهواء والتربة. وكل ما سبق ذكره من إشارات الإخلال بالاتزان البيئي للأرض لا يعدو أن يكون قطرة من بحر الأخطار المادية التي أضحت تتهدد الإنسان ومختلف صور الحياة من حوله.
أما عن ظروف الإنسان النفسية، وعلاقاته الاجتماعية في ظل عمليات التغيير التي يفرضها التقدم العلمي والتقني بمعدلاته المتسارعة، وعناصره العديدة المتشابكة، فقد انتابها من الأمراض والأسقام والعلل ما فاق أخطار التلوث البيئي حدة في انعكاساته على صحة الإنسان؛ وذلك لأن حجم التغيير في حياة الناس أفرادا وجماعات، ومعدلات ذلك قد أصبحت فوق قدرات الإنسان الجسدية والحسية، وأكثر مما يمكن أن تتحمله أعصاب الإنسان السوي، فحواس الإنسان لها حدود معينة، إذا تعداها الإنسان فإنها ترهق إرهاقا شديدا، فأذن الإنسان لا تدرك إلا الأصوات المحصورة في مدى تردد معين، بينما تستطيع آلة السمع في الخفاش أن تتعدى ذلك المدى بمرات كثيرة، وعين الإنسان لا تبصر من الضوء إلا ما له أطوال موجية معينة، وتبصر عين القط من موجات الضوء ما لا تستطيع عين الإنسان إبصاره.
من هـنا لجأ الإنسان إلى مساعدة حواسه بمختلف الأجهزة والآلات التي تعينها على إدراك وتمييز ما هـو فوق قدراتها، وقد اخترع الإنسان الغالبية العظمى من هـذه الأجهزة المساعدة تقليدا لما أدركه من أجهزة الحس عند الكثير من الحيوانات، ولكن يبقى للإنسان قيم وسطية لحسه، ولمواصفات كل من جسده وبيئته، لا تستقيم حياته بتعديها، وذلك من مثل السرعة، والحجم، والكتلة، والضغط، ودرجة الحرارة، وتركيز الأوكسجين، ومختلف صور الطاقة المحيطة، وغير ذلك من المؤثرات، وقد أثبتت الملاحظات الدقيقة أن أي انحراف عن هـذه المعايير سلبا أو إيجابا لا بد وأن يؤدي إلى محاولة للتكيف أو إلى الفناء، وفي الحالة الأولى لا بد وأن يرافق [ ص: 109 ] التكيف مع الظروف الطارئة (والمخلة بالمعتاد المألوف) كثير من المعاناة الجسدية والصحية والنفسية، وإن لم يوفق إلى اجتياز ذلك كان الفناء؛ وذلك لأن تركيب جسد الإنسان، وقدراته الحسية والذهنية قد خلقت جميعها لظروف وسطية محددة، في ظلها يشعر الإنسان بالمواءمة والراحة، ولكنه إذا اضطر إلى الخروج عن هـذه الوسطية وقع في أزمات من الضيق النفسي، والانزعاج المزاجي والصحي، ومن هـنا كانت شدة الإضاءة، وارتفاع معدلات الضجيج، وزحام السكان، وتكدس المرور، وتلوث البيئة، وتفكك الأسرة، وتحلل الروابط الاجتماعية، والمبالغة في شعور الفرد بالوحدة من أكثر أسباب الأزمات النفسية، والانهيارات العصبية، والإحساس بالاكتئاب.
ولذلك فإنه ليس بالأمر المستغرب أن نجد إنسان اليوم شديد التوتر والتنافر مع محيطه، وذلك لأنه في صراع الحياة التي تتحرك من حوله بسرعات تفوق قدراته على اللحاق بها، يضطر إلى التجاوز بقدراته على حدودها مما يؤدي إلى إرهاق نفسه وحسه، وقهرها على مسايرة المعدلات المتسارعة من حوله فينهار، وفي انهياره تتولد كل صور الأزمات النفسية والانهيارات العصبية والإحساس بالفشل والشعور بالإحباط، وما يرافق ذلك من اكتئاب قد يفضي إلى الانتحار أو القتل.
ففي عالمنا المعاصر أدت المبالغة في التصنيع إلى كثير من التغييرات الجذرية في حياة الإنسان: في بيئته، ونمط حياته، ونوعيات غذائه وشرابه وكسائه، وساعات عمله وراحته، وتسارع الأحداث تحت سمعه وبصره، وتكدس الناس من حوله، وازدياد مؤثرات الضجيج في أذنيه، واشتداد وهج الأضواء في عينيه، وغير ذلك من المؤثرات الضارة التي انعكست على أعصاب الإنسان، وقدرات احتماله في محاولته للتكيف مع المتغيرات الجديدة والعديدة والمتسارعة في حياته، ومع العديد من الأفكار الجديدة، ووسائل الاتصال والتعبير والتصرف، والفيض الهائل من المخترعات والأجهزة والأدوات [ ص: 110 ] والوسائل المستحدثة، وما صاحب ذلك من أعراض وأمراض لم تكن متوقعة، ولم يكن من اليسير التنبؤ بحدوثها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشير إلى ظاهرة تكدس السكان في المدن الكبرى اليوم وآثارها السلبية على أخلاق الناس وسلوكياتهم ومشاكلهم النفسية والاجتماعية، فأكثر من خمس سكان العالم اليوم (ويبلغ تعدادهم قرابة الخمسة بلايين نسمة) يقنطنون مدنا يزيد تعداد الواحدة منها على مائة ألف نسمة، بل قد يتعدى العشرة ملايين نسمة في العواصم المكتظة بالسكان من مثل: القاهرة ، وطوكيو ونيويورك . وقد دلت التجارب التي أجريت على الحيوانات أن الازدحام فوق المألوف يحدث لها اضطرابات عصبية شديدة، ومن الواضح أن ذلك يحدث أيضا للإنسان إذا تعرض لشيء من الازدحام الشديد، مما يفسر التزايد الملحوظ في انتشار موجات الاضطرابات النفسية والعصبية، وما يتبعها من ازدياد معدلات الجريمة، وارتباط ذلك بزيادة معدلات البطالة، وبكثرة فرص الاختلاف في المجتمع الواحد، بل في الأسرة الواحدة، وما يتبعه من الشعور بالفردية والعزلة، وما يلازم ذلك من تفشي التحلل واللامبالاة، وانتشار حركات الرفض المختلفة، وموجات إدمان المسكرات والمخدرات، وانحلال روابط الأسرة، وتسيب المرأة، وجنوح الأحداث، انعدام الوازع الديني والأخلاقي، وانقلاب القيم والأعراف، والسلوكيات، والأخلاق، والمعاملات، وتفشي الكثير من الأمراض الصحية والاجتماعية والنفسية، التي بدأت في الانتشار مع انفصام الإنسان عن بيئته، وتكدسه في المدينة بصخبها وضجيجها، فأفسدته، وزاد هـو في إفسادها، كما أفسد بيئته، ولوثها بصنع يديه، وزاد في تعقيدها بفكره.
وقد زاد من تعقيد مشكلة تكدس السكان في المدن الكبرى اليوم أن هـندسة العمارة وتخطيط المدن قد غلب عليهما طابع الربح المادي السريع والاستغلال الشره لمساحات الأرض، ولكل شبر في البناء، دون مراعاة الإنسان إلا في [ ص: 111 ] حدود محاولات التعرف على الحدود القصوى لقدرات احتماله على التضاغط في الأبراج الخرسانية العالية، لتحقيق أعلى قدر من الربح، وأبشع صورة من صور الاستغلال، علما بأن قدرات الإنسان – على تفاوتها – لا تخضع للقياس، وإذا قيست فلا يمكن الركون إلى ثبات قياساتها؛ لأنها تختلف من فرد إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، ولكن من الأمور المسلمة أن ازدياد تعقيد ظروف البيئة التي يحيا فيها الإنسان، من تلويثها بمختلف صور الملوثات، إلى تكديس السكان فيها، وتسارع الأحداث عليها، وارتفاع الضجيج من حولها، وشدة توهج الإضاءة عليها من الأمور التي تفقد الفرد القدرة على الإحاطة بها، والإحساس بالضياع فيها، ويؤدي به في النهاية إلى الإنهاك الجسدي، والانهيار النفسي والصحي، وإلى العديد من الأمراض المستعصية، والاضطرابات العصبية، وعدم المواءمة مع البيئة.
كذلك فإن تكدس السكان بمعدلات تفوق حد الاحتمال، قد يؤدي إلى إفساد كل صورة من صور العلاقات الاجتماعية، بل على تقطيع أواصرها، ومن ثم إشعار الفرد بالوحدة في وسط الزحام، وبالعزلة النفسية وسط آلاف من البشر، مما قد يملؤه بالشعور بالتضاؤل وعدم الأهمية، والإحساس بالضيق والإحباط، أو بالاستعلاء والأنانية والشعور المفرط بالذات، وكلها من الأمراض الاجتماعية التي تؤدي إلى تحلل الروابط الأسرية، وفساد العلاقات الاجتماعية وضياع الإنسان، ولذلك فقد أصبح طابع الحياة في المدن الحديثة مجهدا للنفس والعقل على حد سواء، ومخلا للعديد من وظائف الجسد الحيوية، ومفسدا للإنسان بتكريس عبوديته للآلة، تلك العبودية التي أخذت تتعمق باطراد كلما زاد المجتمع في أخذه بمنتجات التقنيات الحديثة.
ومن هـنا فقد بدأ عدد من الاجتماعيين وعلماء النفس المعاصرين في الدعوة إلى إقامة مجتمعات نموذجية، لا يتجاوز عدد أفرادها العشرة آلاف نسمة، وذلك في محاولة لاستعادة العديد من القيم الاجتماعية السوية التي فقدها الإنسان في زحام المدن المكدسة بالسكان، وبفقدها فقد الكثير من أسباب الراحة الجسدية والاطمئنان النفسي، بل فقد نفسه وأسرته ومجتمعه. [ ص: 112 ]