الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              التقنية والتقدم التقني التقنية لفظة محدثة جاءت بصيغة المصدر الصناعي لتصف طرائق الأداء في الفنون والمهن، ولكن دلالاتها قد تغيرت حديثا لتشمل حسن توظيف أحدث المتاح من المعارف المكتسبة في عملية التنمية توظيفا ماهرا يستوجب الإحاطة التامة بالقوانين والنظم التي تحكم ذلك، وأساليب وطرائق تطبيقه، كما يستوجب تحكيم جهاز منظم من الخبراء في مختلف التخصصات العلمية والفنية، من أجل تقييم مصادر الثروة الطبيعية، والصناعات الإنتاجية، ووضع سياسة دقيقة لتقليل الهدر، وإتاحة أفضل الفرص الممكنة للإنتاجية العالية، والكفاءة القصوى بأقل تكلفة وأعلى جودة ممكنتين، أو باختصار شديد هـي "حسن إتقان العمل"، الذي أوصانا به رسولنا صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) . والإتقان هـو: حسن الأداء، على أعلى قدر من الاستطاعة وبأقل تكلفة ممكنة. [ ص: 44 ]

              ومن جهة أخرى، فإن التقنية هـي: المعرفة العلمية بدقائق الأنشطة التنموية المختلفة، وبتفاصيل فنونها، والقدرة على توظيف كل المعارف والكفاءات المتاحة فيها من أجل زيادة الإنتاج وتحسينه، ورواج التجارة ونجاحها، وحسن القيام على عمارة الأرض. وفي ذلك تقوم التقنية باستمرار على ابتكار وتطوير الوسائل اللازمة لتسخير المعارف العلمية المتاحة من أجل التنمية والتقدم.

              ولما كانت التقنية ملازمة للإنسان منذ اللحظة الأولى لوجوده على الأرض، فإن التعاريف السابقة قد تبدو مبالغة؛ لأنها صيغت لعصرنا وما فيه من تكدس للمعرفة، وتراكم للمعلومات، وتطوير للمهارات والقدرات.

              ومن هـنا كان لزاما علينا أن نبحث عن تعريف بسيط للتقنية يناسب كل الأزمنة وكل العصور، والذي يمكن أن يوضع في الكلمات البسيطة التالية:

              التقنية: هـي مجموعة المعارف والأساليب المتاحة واللازمة للإنتاج والتنمية (أي لعمارة الأرض) في كل عصر من العصور.

              وهناك تعريفات جزئية أخرى عديدة للتقنية منها أنها "المعرفة العلمية والهندسية والإدارية التي يمكن بواسطتها تصور، وتعميم، وإنتاج، وتطوير، وتوزيع المنتجات والخدمات المختلة".

              ومنهم من يعرفها بأنها "القدرة على اختراع آلة أو مجموعة من الآلات، أو تطوير مهارة، أو مجموعة من المهارات، أو إتقان معلومة أو مجموعة من المعلومات المنظمة والمتناسقة، أو إجادة عملية أو مجموعة متتالية من العمليات، أو تكوين الفعالية المنظمة لمجموعة اجتماعية لها هـدف القيام بنشاط معين، والجوانب الإدارية والتنظيمية اللازمة لكل ذلك".

              وكثيرا ما يختلط مدلول اللفظين: العلوم والتقنية، والسبب في ذلك أن التقنيات المعاصرة تعتمد في غالبيتها على العلوم الطبيعية (علوم الفطرة أو العلوم الكونية) من مثل: الفيزياء، والرياضيات، والكيمياء، وعلوم الأحياء، وعلوم الأرض والكون، وغيرها من المعارف التي تعين على المعرفة بأشياء هـذا الوجود، [ ص: 45 ] وقياس الظواهر السائدة فيه ومحاولة فهمها.

              ومن مثل هـذه التقنيات المرتبطة ارتباطا وثيقا بالمعارف العلمية البحتة نذكر صناعات الأدوية، والكيماويات، واللدائن ، والإليكترونيات ، والحواسيب العملاقة ، ومراكب الفضاء وعمليات إطلاقها.

              وإذا كان اهتمام العلوم البحتة يدور حول معرفة الأشياء وعلاتها، وتتركز إجاباتها أساسا حول السؤالين الرئيسين: ما هـذا؟ ولماذا؟ فإن التقنية تركز على معرفة الوسيلة، وتدور إجابتها دوما حول الإجابة على السؤال: كيف؟

              والعلاقة بين علة الأشياء وكيفية تسخيرها لعمارة الحياة على الأرض علاقة معقدة للغاية، وتختلف من مجال إلى آخر، ومن صناعة إلى أخرى، فبعض التقنيات يعتمد اعتمادا كليا على المعارف العلمية، وبعضها يعتمد أكثر على المهارات اليدوية، هـذا بالإضافة إلى عدد من التقنيات القائمة عليها قد تطور بغير قاعدة علمية حقيقة، بينما نمت بعض المعارف العلمية مباشرة عن طريق التفسير لبعض التقنيات القديمة التي طورها عدد من الفنيين المهرة الذين لم تكن لهم خبرة علمية حقيقية أو تدريب علمي محدد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر أنه عن صناعة المدافع تطور اليوم علم إطلاق الصواريخ، وعن صناعة الآلة البخارية تطور علم الديناميكا الحرارية، وعن صناعة الطائرات تطور علم ديناميكا الهواء، وعن المعارف البدائية بصهر وتنقية المعادن تطور علم العدانة أو سباكة المعادن، وعن صناعة أجهزة الاتصالات المختلفة تطور علم الفلك الراديوي.

              ومع تسليمنا بأن التطور التقني كان حتى منتصف القرن الثامن عشر قائما على أكتاف الحرفيين والفنيين والعمال المهرة، فإن التحام العلم والتقنية قد بدأ يتم بشكل تدريجي بعد الثورة الصناعية، ليبلغ أقصى مداه في العقود الأربعة الماضية، فيحقق للتقدم ما لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية الطويل.

              أما عن التقدم التقني في مجتمع ما فيعرف بقدرة ذلك المجتمع على تطبيق [ ص: 46 ] أحدث المعارف العلمية المتاحة له في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، أي في زيادة مردود الأرض، وحسن الاستفادة بمختلف ثرواتها، وفي إقامة كل الصناعات اللازمة لذلك ولغيره من متطلبات الحياة، وحاجات الأفراد والجماعات، ومستلزمات النمو الاقتصادي والعمراني المطردين، ولا بد من التأكيد هـنا على أن المقصود بالتقدم التقني هـو استمرارية التقدم والنماء على أساس من توظيف كل المعارف المتاحة، وابتكار وتطوير الوسائل اللازمة لتسخير تلك المعارف في عملية التنمية الشاملة، وليست السلع أو الخدمات الناتجة عن ذلك.

              فالتقدم التقني يربط المعارف المكتسبة – بصفة عامة – والعلوم البحتة والتطبيقية فيها – بصفة خاصة – بالقضايا التنموية للمجتمعات البشرية، ويقيم كل المؤسسات الرسمية والشعبية اللازمة لذلك، وهذه مجالات لا تزال كل الدول النامية – بما فيها الدول الإسلامية – متخلفة فيها، ولا تزال المجتمعات الصناعية تحتكرها، وتحاول جاهدة حجب ثمارها عن هـذه المجتمعات النامية، وإذا اضطرت إلى الإفصاح عن شيء من ذلك في عمليات المناورات السياسية المعقدة، فإنها لا تبيع إلا ما قد استغنت بالفعل عنه من أساليب، في جرعات لا تغني ولا تسمن من جوع، وبأسعار ابتزازية مبالغ فيها جدا.

              ونظرا للعلاقة الوطيدة بين التقدم العلمي والتقدم التقني، فقد بدأت دول الشمال المتخمة تصنف قدرا غير قليل من المعارف العلمية على أنها غير مسموح بتداولها، بعد أن كان العلم ميدانا مفتوحا تماما، يتنافس فيه المتنافسون، وينهل من فيض عطائه الناهلون.

              من كل ما سبق يتحدد مفهوم التقدم العلمي والتقني بمسايرة العصر مسايرة مستمرة، في الإلمام بكل المعارف المكتسبة، وحسن توظيفها في عملية التنمية الشاملة للمجتمعات البشرية، وتسخيرها من أجل عمارة الأرض، والقيام بواجبات الاستخلاف فيها، ويشمل ذلك تكوين سلسلة متصلة من المتخصصين القادرين على مواصلة عملية البحث العلمي وتنميته، ونشر نتائجه، [ ص: 47 ] من أجل النماء الاقتصادي، والتطور الصناعي والزراعي والعمراني والبشري، على أسس علمية دقيقة، وفي أطر إدارية وتنظيمية منضبطة، تزداد إحكاما وضبطا يوما بعد يوم، وينعكس ذلك على عملية التنمية الشاملة ازدهارا مطردا كما يشمل إقامة كل المؤسسات اللازمة لذلك.

              وكما سبق وأن أشرنا، فإنه كلما زادت العلاقة بين العلوم والتقنية وثوقا، كلما زادتهما ازدهارا وتقدما، وكلما زاد تفاعلهما التحاما، كلما زادت معدلات تقدمهما، وزادت قدراتهما على إثراء عمليات التنمية المادية، كما يتحقق اليوم على أراضي الدول الصناعية، ولكن مثل هـذا التفاعل لم تتح له فرص القيام بعد في المجتمعات النامية، ومنها غالبية دول العالم الإسلامي المعاصر، وذلك لأسباب كثيرة، منها: أن البنية الأساسية في هـذه المجتمعات غير كاملة، وبالتالي فإن القدرة التقنية إما منعدمة، أو إن كان لها وجود فهي لم تصل بعد إلى المستوى الذي يمكن أن يسمح لها بالالتحام بالمعارف العلمية المتاحة. ومنها: عدم توفر أسباب الاستقرار السياسي والاجتماعي، وأسباب النمو الاقتصادي (وأغلبها من الدول الفقيرة المثقلة بالديون) ، وعدم توفر فرص الالتحام بتراث الأمة الإسلامية للغالبية الساحقة من المسلمين المعاصرين – وهو الجذوة القادرة على إذكاء كل مكامن القوة فيهم – وعدم توفر الحد الأدنى من الحرية الشخصية، أو الإحساس بالانتماء للوطن، من ذلك تتضح بعض أسباب تخلفنا المعاصر؛ لأن التقدم العلمي والتقني لا يمكن أن يكون عملية فردية، حتى لو توفرت الكفاءات العلمية الفذة، والقدرات التقنية القادرة؛ لأنها عملية فنية/ إدارية/ اجتماعية متكاملة، تتضافر عليها جهود الدولة والمجتمع، ويتكاتف عليها العلماء والتقنيون والاقتصاديون والتربويون، مع أجهزة البحث العلمي والابتكار في إطار من القيم الاجتماعية والحضارية السائدة في المجتمع.

              فالحكومة باعتبارها السلطة العليا في الدولة، والمخططة للسياسات العلمية والتقنية، ضمن ما تضعه من سياسات موجهة لخدمة قضية التنمية الشاملة، وما يحكمها من ارتباطات دولية، والأجهزة الرسمية القائمة على رسم ومتابعة تنفيذ [ ص: 48 ] هـذه السياسة، وموقعها من السلطة السياسية والتنفيذية العليا في الدولة، والثروة البشرية من العلميين والتقنيين، والظروف الملائمة لتأهليهم وإنمائهم والمحافظة عليهم، والثروة المالية المخصصة لمختلف الأنشطة العلمية والتقنية وحسن توزيعها، ومراكز ومعاهد ووحدات البحوث المتخصصة، وما يتصل بها من مراكز التوثيق العلمي والتقني، ومراكز خدمات الأجهزة العلمية، والتخطيط لبرامج البحوث العلمية والتقنية على المستويين الوطني والإقليمي على الأقل، وتسخير حصيلة البحوث العلمية والتقنية في عملية التنمية الشاملة، واستصدار التشريعات والتنظيمات اللازمة لتنفيذ كل ذلك، ومراكز الإنتاج وقدراتها التقنية، ونظم إدارتها وعلاقات العمل فيها، وأجهزة البحث والابتكار، وتسجيل براءات الاختراع، وتطوير المبتكرات وتجهيزها للتداول، والخدمات الأخرى المعاونة في ذلك، والقيم الدراسية والاجتماعية والأنماط السلوكية السائدة في المجتمع، والتي تحدد موقفه من قضية التقدم العلمي والتقني، وتسخيرهما في خدمة الإنسان في عملية تنمية شاملة، كلها من ضروريات التقدم العلمي والتقني ومن ألزم لزومياته.

              وقد وضع الدارسون لقضية التقدم العلمي والتقني عددا من المعايير تكون مؤشرات لقياس معدلاتها في أمة من الأمم، أو مجتمع من المجتمعات، منها: معدلات الزيادة في متوسط دخل الفرد، وفي محو الأمية من المجتمع، وفي هـبوط نسبة البطالة، وفي ارتفاع معدل استهلاك الطاقة، وفي زيادة معدلات نمو الإنتاج، ومنها كذلك حجم الإنتاج العلمي المنشور، وعدد الاكتشافات العلمية والمحققة، وبراءات الاختراع المسجلة، والأجهزة والمعدات المصنعة، والمعامل والمصانع المقامة، وغير ذلك من المؤشرات، وكلها أطر مادية صرفة حددتها الدعوة الباطلة بأن البحوث العلمية البحتة والتطبيقية لا بد لها أن تدور في حدود مادية خالصة لا ارتباط لها بالقيم الأخلاقية والروحية، ولا صلة لها بالدين، على الرغم من أن التجربة الإنسانية الطويلة وواقعها الراهن يؤكد أن على أن العملية لا بد لها من إطار روحي (أخلاقي) ديني متين، وإلا أصبحت وبالا على القائمين بها، وعلى مجتمعاتهم، بل على الإنسانية جمعاء.. وذلك لأن [ ص: 49 ] التقدم العلمي والتقني يوفر للإنسان من أسباب القوة المادية ما لا يمكن ضبطه إلا بخشية الله والحرص على مرضاته، وهي أمور يفتقر إليها العالم المتقدم علميا وتقنيا، بينما تخلفت دول الإسلام الحاملة لآخر الرسالات السماوية، وللدين الوحيد المقبول من الله في زمرة المتخلفين عن ركب التقدم العلمي والتقني، لافتقارها إلى أسباب الاستقرار السياسي، والعدل الاجتماعي، والنمو الاقتصادي، ولأبسط معاني الاحترام لكرامة الإنسان، ولحقه في حريته، وهي من أهم مقومات التقدم، ثم لتفشي الأمية بين أبنائها، وندرة العلماء والتقنيين فيهم، وفقدانهم لهويتهم، ولتمزيق أمتهم إلى أكثر من خمسين دولة ودويلة، وتشتيت ثرواتهم، وفرض التبعية عليهم، وخلخلة ارتباطهم بعقيدتهم ودينهم وحضارتهم، وتطفلهم على الكثير من المعتقدات الوضعية، والمذهبيات الاصطناعية، وكلها من عوامل الهدم والضياع، ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله العلي العظيم.

              وهنا يجب التأكيد على أن عملية التقدم العلمي والتقني لأمة من الأمم هـي عملية شديدة الارتباط بواقع هـذه الأمة السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والعقائدي، والفكري،

              والله يقول: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [الرعد:11].

              ومن هـنا أيضا كان مستوى التقدم العلمي والتقني لمجتمع من المجتمعات في وقت محدد يمثل مخزون المعرفة المتاحة لهذا المجتمع في ذلك الوقت، وقدرته على توظيف ذلك المخزون في عملية تنموية شاملة تحقق عمارة الحياة على هـذه الأرض بمستوى العصر، مع القدرة على تحسين وتطوير هـذا المستوى، والنهوض المستمر بالمعرفة العلمية وبالتقنيات المتاحة، وهي أمور لا يمكن أن تتم في غيبة الحرية، والمحافظة على كرامة الإنسان، كما لا يمكن أن تتم بغير تخطيط عميق ومدروس. [ ص: 50 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية