الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                      كشاف القناع عن متن الإقناع

                                                                                                                      البهوتي - منصور بن يونس البهوتي

                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                      ( كتاب الصيام ) مصدر صام كالصوم ( وهو ) لغة الإمساك ، ومنه { إني نذرت للرحمن صوما } وقول الشاعر :

                                                                                                                      خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك

                                                                                                                      اللجما يقال للفرس : صائم إذا أمسك عن العلف ، مع القيام ، أو عن الصهيل في موضعه ، ويقال : صامت الريح ، إذا أمسكت عن الهبوب و ( شرعا إمساك عن أشياء مخصوصة ) هي مفسداته الآتية في الباب بعده ( بنية في زمن معين ) ، وهو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، ( من شخص مخصوص ) وهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء .

                                                                                                                      ( صوم شهر رمضان ) من كل عام ( أحد أركان الإسلام وفروضه ) المشار إليها في حديث ابن عمر المتفق عليه بقوله : { بني الإسلام على خمس } الحديث ( فرض في السنة الثانية من الهجرة ) إجماعا ( فصام النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 300 ] تسع رمضانات ) إجماعا .

                                                                                                                      ( والمستحب قول : شهر رمضان ) كما قال تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ( ولا يكره قول رمضان بإسقاط شهر ) لظاهر حديث ابن عمر وذكر الموفق أنه يكره إلا مع قرينة الشهر ، وذكر الشيخ تقي الدين وجها : يكره .

                                                                                                                      وفي المنتخب : لا يجوز ، لخبر أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى } وقد ضعف وقال ابن الجوزي : هو موضوع وسمي رمضان لحر جوف الصائم فيه ورمضه ، والرمضة شدة الحر ، وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة وافق شدة الحر وقيل : لأنه يحرق الذنوب وقيل : موضوع لغير معنى كبقية الشهور ، وجمعه : رمضانات وأرمضة ، ورماضين وأرمض ورماض ورماضي وأراميض .

                                                                                                                      ( ويستحب للناس ليلة الثلاثين من شعبان أن يتراءوا هلال رمضان ويجب صومه ) أي شهر رمضان ( برؤية هلاله ) لقوله تعالى { كتب عليكم الصيام } - إلى قوله - { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقوله صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته } والإجماع منعقد على وجوبه إذن ( فإن لم ير ) الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ( مع الصحو كملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا ) بغير خلاف وصلوا التراويح كما لو رأوه قاله في المبدع .

                                                                                                                      ويستحب ترائي الهلال احتياطا للصوم وحذارا من الاختلاف وعن عائشة قالت : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره ثم يصوم لرؤية رمضان } رواه الدارقطني بإسناد صحيح وعن أبي هريرة مرفوعا { أحصوا هلال شعبان لرمضان } رواه الترمذي وإذا رأى الهلال كبر ثلاثا وقال " اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والأمن والأمان ربي وربك الله " ويقول ثلاث مرات : هلال خير ورشد ، ويقول : " آمنت بالذي خلقك " ثم يقول : " الحمد لله الذي أذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا " قاله في الآداب الكبرى وروى الأثرم عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم { إذا رأى الهلال قال : الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيق لما تحب وترضى ، ربي وربك الله } .

                                                                                                                      ( وإن حال دون منظره ) أي مطلع الهلال [ ص: 301 ] ( غيم أو قتر أو غيرهما ) كالدخان ، والقتر والقترة محركتين : الغبرة ( ليلة الثلاثين من شعبان لم يجب صومه قبل رؤية هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين ) يوما ( نصا ، ولا تثبت بقية توابعه ) كصلاة التراويح ووجوب الإمساك على من أصبح مفطرا ، ( واختاره الشيخ وأصحابه وجمع ) منهم أبو الخطاب وابن عقيل ذكره في الفائق وصاحب التبصرة وصححه ابن رزين في شرحه قال الشيخ تقي الدين : هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه ، وقال : لا أصل للوجوب في كلام الإمام أحمد ولا في كلام أحد من الصحابة ورد صاحب الفروع جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب وقال : لم أجد عن أحمد كلاما صريحا بالوجوب ولا أمر به فلا يتوجه إضافته إليه انتهى .

                                                                                                                      لما روى أبو هريرة مرفوعا { : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما } متفق عليه ; ولأنه يوم شك وهو منهي عنه ، والأصل بقاء الشهر ، فلا ينتقل عنه بالشك ( والمذهب : يجب صومه ) أي صوم يوم الثلاثين من شعبان إن حال دون مطلعه غيم أو قتر ونحوهما ( بنية رمضان حكما ظنيا بوجوبه احتياطا لا يقينا ) ، اختاره الخرقي وأكثر شيوخ أصحابنا ونصوص أحمد عليه ، وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر ، وقاله جمع من التابعين لما روى ابن عمر مرفوعا قال : { إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له } متفق عليه ، ومعنى " فاقدروا له " أي : ضيقوا لقوله تعالى { : ومن قدر عليه رزقه } أي : ضيق وهو أن يجعل شعبان تسعا وعشرين يوما ، ويجوز أن يكون معناه : اقدروا زمانا يطلع في مثله الهلال ، وهذا الزمان يصح وجوده فيه أو يكون معناه : فاعلموا من طريق الحكم أنه تحت الغيم كقوله تعالى : { إلا امرأته قدرناها من الغابرين } أي : علمناها .

                                                                                                                      مع أن بعض المحققين قالوا : الشهر أصله تسع وعشرون يؤيده ما رواه أحمد عن إسماعيل عن أيوب عن نافع قال : " كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما بعث من ينظر له فإن رآه فذاك وإن لم يره ولم يحل دون منظره سحاب [ ص: 302 ] ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما " ، ولا شك أنه راوي الخبر وأعلم بمعناه فتعين المصير إليه كما رجع إليه في تفسير خيار المتبايعين يؤكده قول علي وأبي هريرة وعائشة : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " ; ولأنه يحتاط له ، ويجب بخبر الواحد ، وأجيب عن الأول بأن خبر أبي هريرة يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة { : فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين } وروايته أولى ; لإمامته واشتهار عدالته وثقته وموافقته لرأي أبي هريرة .

                                                                                                                      وقال الإسماعيلي : ذكر شعبان فيه من تفسير ابن أبي إياس ، وليس هو بيوم شك كما يأتي ( ويجزئه ) صوم يوم الثلاثين حينئذ ( إن بان منه ) أي : من رمضان بأن ثبتت رؤيته بمكان آخر ; لأن صيامه وقع بنية رمضان قيل للقاضي : لا يصح إلا بنية ومع الشك فيها لا يجزم بها فقال : لا يمنع التردد فيها للحاجة كالأسير وصلاة من خمس .

                                                                                                                      ( ويصلي التراويح ليلته ) إذن ( احتياطا للسنة ) قال أحمد : القيام قبل الصيام ( وتثبت بقية توابعه ) أي : الصوم ( من وجوب كفارة بوطء فيه ونحوه ) كوجوب الإمساك على من لم يبيت النية ، ونحوه لتبعيتها للصوم ( ما لم يتحقق أنه من شعبان ) بأن لم يزمع الصحو هلال شوال بعد ثلاثين ليلة من الليلة التي غم فيها هلال رمضان فيتعين أنه لا كفارة بالوطء في ذلك اليوم ( ولا تثبت بقية الأحكام من حلول الآجال ووقوع المعلقات ) من طلاق أو عتق .

                                                                                                                      ( وغيرها ) كانقضاء العدة ومدة الإيلاء عملا بالأصل خولف للنص ، واحتياطا للعبادة عامة .

                                                                                                                      " تتمة " قال ابن عقيل : البعد مانع كالغيم فيجب على كل حنبلي يصوم مع الغيم أن يصوم مع البعد لاحتماله انتهى قال ابن قندس : المراد بالبعد البعد الذي يحول بينه وبين رؤية الهلال كالمطمور والمسجون ومن بينه وبين المطلع شيء يحول ، كالجبل ونحوه " .

                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                      الخدمات العلمية