وفيها كان وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصدا مصعب بن الزبير بالعراق ، فالتقيا في هذه السنة ، وقد كانا قبلها يركب كل واحد لملتقى الآخر ، فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل ، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده ، فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك ، وبعث بين يديه السرايا ، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر ، فاستجاب له بعضهم ، وقد كان مصعب سار إلى الحجاز ، فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك ، فأنب الكبراء من الناس ، وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم ، وإقرارهم لهم على ذلك ، وهدم دور بعضهم ، ثم شخص إلى الكوفة ، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه . مقتل مصعب بن الزبير ،
ووصل عبد الملك إلى مسكن ، وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه ، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان ، فقال : نعم . وهم جماعة كثيرة من الأمراء ، وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان بن الحكم ، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية ، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية ، وخرج مصعب بن الزبير ، وقد اختلف عليه أهل العراق ، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه ، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك ، وقال : لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع من إلقائه يده ، ومن الذلة لعبيد الله بن زياد ، وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه :
وإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أمرائه أن يقيم بالشام ، وأن يبعث إلى مصعب جيشا فأبى ، وقال : لعلي أبعث رجلا شجاعا لا رأي له ، أو من له رأي ولا شجاعة له ، وإني أجد من نفسي بصرا بالحرب وشجاعة ، وإن مصعبا في بيت شجاعة ، أبوه أشجع قريش ، وأخوه لا تجهل شجاعته ، وهو شجاع ، لا علم له بالحرب ، وهو يحب الدعة والخفض ، ومعه من يخالفه ، ومعي من ينصح لي . فسار بنفسه ، فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب بكتب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات ، فجاء إبراهيم بن الأشتر إلى مصعب فألقى إليه كتابا مختوما ، وقال : هذا جاءني من عبد الملك . ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الإتيان إليه ، وله نيابة العراق . وقال لمصعب : أيها الأمير ، إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا فإن أطعتني ضربت أعناقهم . فقال له مصعب : إني لو فعلت ذلك لم تنصحنا عشائرهم بعدهم . فقال : فأوقرهم في الحديد وابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه ، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعنقهم ، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم . فقال له : يا أبا النعمان ، إني لفي شغل عن هذا . ثم قال مصعب : رحم الله أبا بحر - يعني الأحنف بن قيس - إن كان ليحذرني غدر أهل العراق ، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن .
مواجهة الجيشان بدير الجاثليق من مسكن
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن ، فحمل إبراهيم بن الأشتر - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب - على محمد بن مروان - وهو أمير مقدمة الشام - فأزاله عن موضعه ، فأردفه عبد الملك بن مروان بعبد الله بن يزيد بن معاوية ، فحملوا على إبراهيم بن الأشتر ، ومن معه فطحنوهم ، وقتل إبراهيم بن الأشتر ، رحمه الله وعفا عنه ، وقتل معه جماعة من الأمراء ، وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ إلى عبد الملك بن مروان ، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ، ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم ، فلا يتحرك أحد ، فجعل يقول : يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم ! وتفاقم الأمر ، واشتد القتال وتخاذلت الرجال ، وضاق الحال ، وكثر النزال .
قال المدائني : عن يحيى بن إسماعيل بن المهاجر ، عن أبيه قال : أرسل عبد الملك أخاه محمد بن مروان إلى مصعب يعطيه الأمان فأبى ، وقال : إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا .
قالوا : فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال : يابن أخي ، لا تقتل نفسك ، لك الأمان . فقال له مصعب : قد آمنك عمك فامض إليه . فقال : لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل . فقال له : يا بني ، فاركب خيل السبق فالحق بعمك ، فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول هاهنا ، فقال : والله إني لا أخبر عنك أحدا أبدا ، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك أبدا ، ولا أقتل إلا معك ، ولكن إن شئت ركبت خيلك ، وسرنا إلى البصرة ، فإنهم على الجماعة . فقال مصعب : لا والله ، ما الفرار لي بعادة ، ولكن أقاتل ، فإن قتلت فما السيف لي بعار ، والله لا تتحدث قريش عني أني فررت من القتال . ثم قال لابنه : تقدم بين يدي حتى أحتسبك . فتقدم ابنه ، فقاتل حتى قتل ، وأثخن مصعب بالرمي ، فنظر إليه زائدة بن قدامة ، وهو كذلك فحمل عليه فطعنه ، وهو يقول : يا ثارات المختار ! فصرعه ، ونزل إليه رجل يقال له : عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي ، فقتله وحز رأسه ، وأتى به عبد الملك بن مروان ، فسجد عبد الملك ، وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها ، وقال : لم أقتله على طاعتك ، ولكن بثأر كان لي عنده ، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه .
وقال : لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى : لو اعتصمت ببعض القلاع ، وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك ، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم ; فإنك قد ضعفت جدا . فلم يرد عليه جوابا . ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي ، وكيف قتل كريما ، ولم يلق بيده ، ولم يجد من أهل العراق وفاء . وكذلك أبوه وأخوه ، ونحن ما وجدنا لهم وفاء .
ثم انهزم أصحابه ، وبقي في قليل من خواصه ، ومال الجميع إلى عبد الملك ، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا ، وكان خليلا له قبل الخلافة ، فقال لأخيه محمد : اذهب إليه فآمنه ، فجاءه ، فقال له : يا مصعب قد آمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك ، فاذهب حيث شئت من البلاد ، ولو أراد بك غير ذلك لكان ، فقال مصعب : قضي الأمر ، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا . فتقدم ابنه عيسى فقاتل ، فقال محمد بن مروان يابن أخي لا تقتل نفسك . ثم ذكر من قوله ما تقدم ، ثم قاتل حتى قتل ، رحمه الله ، ثم ذكر من قتل أبيه بعده ، كما تقدم .
بكاء عبد الملك عند وفاة مصعب ووقت وفاته
قال : ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال : والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا ، ولكن الملك عقيم ! ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة ، متى تلد النساء مثل مصعب ؟ ثم أمر بمواراته ، ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة .
قال المدائني : وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور ، وقال المدائني : سنة ثنتين وسبعين . والله أعلم .