الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين

            فمن الحوادث فيها :

            قتل إيتاخ
             وقد ذكرنا أنه استأذن في الحج فأذن له ، ولما رجع من الحج إلى العراق ، وجه إليه المتوكل سعيد بن صالح الحاجب بكسوة وألطاف ، وأمره أن يتلقاه ببعض الطريق ، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بأمره فيه .

            فلما خرج إسحاق وقرب إيتاخ من بغداد ، أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ، ثم يخرج إلى سامراء ، فكتب إليه إسحاق : إن أمير المؤمنين ، قد أمر أن تدخل بغداد ، وأن يتلقاك بنو هاشم ووجوه الناس ، وأن تعقد لهم في دار خزيمة بن خازم ، فتأمر لهم بجوائز .

            وشحن إسحاق الجسر بالجند والشاكرية ، وخرج في خاصته ، فاستقبله ، فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل ، فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل .

            وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه ، فسارا جميعا حتى إذا صار عند الجسر تقدمه إسحاق ، فعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم ، وقال لإيتاخ يدخل .

            وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمان إيتاخ قدموه ، حتى بقي في خاصة غلمانه ، فدخل ، وقد فرشت له دار خزيمة ، وتأخر إسحاق ، وأمر أن لا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أو أربعة ، وأخذت عليه الأبواب وأمر بحراسته من ناحية الشط ، وقطعت كل درجة في قصر خزيمة ، فحين دخل أغلق الباب [خلفه ] ، فنظر فدخل ، فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان ، فقال : قد فعلوها .

            فمكث يومين أو ثلاثة ، ثم ركب إسحاق حراقة وأعد لإيتاخ أخرى ، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة ، وأمر بأخذ سيفه ، وصاعدا إلى دار إسحاق ، فأدخل ناحية منها ، ثم قيد فصير في عنقه ثمانين رطلا ، فمات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة ، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن محمد بن ثابت صاحب البريد ببغداد والقضاة ، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر ، فقيل إن هلاكه كان بالعطش ، وحبس ابناه معه ، فبقيا إلى أن ولي المنتصر فأخرجهما .

            ذكر أسر ابن البعيث وموته  

            في هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال ، وبخليفته أبي الأغر ، وبأخويه صقر وخالد ، وكاتبه العلاء ، وجماعة من أصحابه ، فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال ليراهم الناس ، فلما أحضر ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه ، فجاء السياف ، وسبه المتوكل ، وقال : ما دعاك إلى ما صنعت ؟ قال : الشقوة ، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه ، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك ، وهو العفو ، ثم قال بلا فصل :


            أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل     وهل أنا إلا جبلة من خطيئة
            وعفوك من نور النبوة يجبل     فإنك خير السابقين إلى العلى
            ولا شك أن خير الفعالين تفعل

            فقال المتوكل لبعض أصحابه : إن عنده لأدبا ، فقال : بل يفعل أمير المؤمنين ويمن عليه ، فأمر برده ، فحبس مقيدا ، وقيل : إن المعتز شفع فيه إلى أبيه فأطلقه ، وكان البعيث قد قال حين هرب :


            كم قد قضيت أمورا كان أهملها     غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
            لا تعذليني فمالي ليس ينفعني     إليك عني جرى المقدار بالقلم
            سأتلف المال في عسر وفي يسر     إن الجواد الذي يعطي على العدم

            ومات ابن البعيث بعد دخوله سامرا بشهر ، قيل : كان قد جعل في عنقه مائة رطل ، فلم يزل على وجهه حتى مات ، وجعل بنوه : ( جليس وصقر ) ، والبعيث ، في عداد الشاكرية مع عبيد الله بن يحيى بن خاقان . [احتراق سجن باب الشام ]  

            وفي هذا الشهر : احترق سجن باب الشام ، واحترق فيه مائة وثلاثون رجلا ، وذلك عند رواح الناس إلى الجمعة .

            ذكر ظهور رجل ادعى النبوة  

            وفيها ظهر بسامرا رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري ، فزعم أنه نبي ، وأنه ذو القرنين ، وتبعه سبعة وعشرون رجلا ، وخرج من أصحابه ببغداذ رجلان بباب العامة ، وآخران بالجانب الغربي ، فأتي به وبأصحابه المتوكل ، فأمر به فضرب ( ضربا شديدا ، وحمل إلى باب العامة ، فكذب نفسه ، وأمر أصحابه أن يضربوه ) كل رجل منهم عشر صفعات ، ففعلوا ، وأخذوا له مصحفا فيه كلام قد جمعه ، وذكر أنه قرآن ، وأن جبرائيل نزل به ، ثم مات من الضرب في ذي الحجة ، وحبس أصحابه ، وكان فيهم شيخ يزعم أنه نبي ، وأن الوحي يأتيه . وقام رجلان ببغداد في ذي القعدة والإمام في الصلاة ، فصاحا وأفسدا على الناس صلاتهم ، حتى قرأ الإمام في الركعة الثانية : قل هو الله أحد وذكرا أنهما نبيان وكان هذا في مسجد غربي بغداد ، وقام آخران بسامراء [في هذا اليوم ] ففعلا ذلك . عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة  

            وفي هذه السنة : عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة : لمحمد المنتصر ، ولأبي عبد الله الزبير وقيل : اسمه محمد ولقبه : المعتز بالله ، ولإبراهيم وسماه : المؤيد بالله ، وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة ، وقيل : لليلتين .

            وعقد لكل منهم لواءين ، فضم إلى المنتصر : إفريقية والمغرب كله وقنسرين ، والعواصم ، والثغور ، وديار مضر ، وديار ربيعة ، والموصل ، وهيت ، وعانة ، وتكريت ، وكور دجلة ، وطساسيج السواد ، والحرمين ، واليمن ، وعك ، وحضرموت ، واليمامة ، والبحرين ، والسند ، ومكران ، وقندابيل ، وكور الأهواز ، والمستغلات بسامراء في مواضع كثيرة .

            وضم إلى المعتز : كور خراسان ، وما يضاف إليها ، وطبرستان والري ، وكور فارس ، وأرمينية ، وأذربيجان ، ودور الضرب ، وأمر بضرب اسمه على الدراهم .

            وضم إلى ابنه المؤيد : جند دمشق ، وجند حمص ، وجند الأردن ، وجند فلسطين .

            وكتب بذلك كتابا على نفسه بولاية العهد لهم ، وما سلم إليهم من الأعمال .

            تغير ماء دجلة إلى الصفرة  

            وفي ذي الحجة من هذه السنة : تغير ماء دجلة إلى الصفرة ، فبقي ثلاثة أيام ، ففزع الناس لذلك ، ثم صار في لون المورد . حكاه أبو جعفر الطبري . وفيها : أتى المتوكل بيحيى بن محمد بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين ، وكان قد جمع قوما ، فحبس وضربه عمر بن فرج ثماني عشرة مقرعة ، وحبس ببغداد . ذكر ما كان بالأندلس من الحوادث  

            وفي هذه السنة خرج عباس بن وليد المعروف بالطبلي ، بنواحي تدمير ، لمحاربة جمع اجتمعوا ، وقدموا على أنفسهم رجلا اسمه محمد بن عيسى بن سابق ، فوطئ عباس بلدهم ، وأوقع بهم ، وأصلحهم وعاد .

            وفيها ثار أهل تاكرنا ومن يليهم من البربر ، فسار إليهم جيش عبد الرحمن ، صاحب الأندلس ، فقاتلهم ، وأوقع بهم ، وأعظم النكاية فيهم .

            وفيها سير عبد الرحمن ابنه المنذر في جيش كثيف لغزو الروم ، فبلغوا ألبة .

            وفيها كان سيل عظيم في رجب ، في بلاد الأندلس ، فخرب جسر إستجة ، وخرب الأرحاء ، وغرق نهر إشبيلية ست عشرة قرية ، وخرب نهر تاجة ثماني عشرة قرية ، وصار عرضه ثلاثين ميلا ، وكان هذا حدثا عظيما وقع في جميع البلاد في شهر واحد .

            وفيها هلك ردمير بن أذفونس في رجب ، وكانت ولايته ثمانية أعوام .

            وفيها هلك أبو السول الشاعر سعيد بن يعمر بن علي بسرقسطة . ذكر عدة حوادث

            وفي هذه السنة أمر المتوكل أهل الذمة بلبس الطيالسة العسلية  ، وشد الزنانير ، وركوب السروج بالركب الخشب ، وعمل كرتين في مؤخر السروج ، وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفتين لون الثوب ، كل واحدة منها قدر أربع أصابع ، ولون كل واحدة منها غير لون الأخرى ، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا ، ومنعهم من لباس المناطق ، وأمر بهدم بيعهم المحدثة ، وبأخذ العشر من منازلهم ، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب ، ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان ، ولا يعلمهم مسلم ، وأن يظهروا في شعانينهم صليبا ، وأن يستعملوه في الطريق ، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض ، وكتب في ذلك إلى الآفاق . وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية