الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

            ذكر وثوب أهل أرمينية بعاملهم  

            في هذه السنة وثب أهل أرمينية بعاملها يوسف بن محمد فقتلوه .

            وكان سبب ذلك أن يوسف لما سار إلى أرمينية خرج إليه بطريق يقال له بقراط بن أشوط ، ويقال له بطريق البطارقة ، يطلب الأمان ، فأخذه يوسف وابنه نعمة ، فسيرهما إلى باب الخليفة ، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخي ابن بقراط بن أشوط ، وتحالفوا على قتل يوسف ، ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة ، وهو صهر بقراط على ابنته ، فأتى الخبر يوسف ، ونهاه أصحابه عن المقام بمكانه ، فلم يقبل ، فلما جاء الشتاء ، ونزل الثلج ، مكثوا حتى سكن الثلج ، ثم أتوه وهو بمدينة طرون ، فحصروه بها ، فخرج إليهم من المدينة فقاتلهم ، فقتلوه وكل من قاتل معه ، وأما من لم يقاتل معه فقالوا له : انزع ثيابك ، وانج بنفسك عريانا ، ففعلوا ، ومشوا حفاة عراة ، فهلك أكثرهم من البرد ، وسقطت أصابع كثير منهم ، ونجوا ، وكان ذلك في رمضان .

            وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله ، فوجه إلى كل طائفة منهم طائفة من البطارقة ، فقتلوهم في يوم واحد .

            فلما بلغ المتوكل خبره وجه بغا الكبير إليهم ، طالبا لدم يوسف ، فسار إليهم على الموصل والجزيرة ، فبدأ بأرزن ، وبها موسى بن زرارة ، وله إخوة : إسماعيل ، وسليمان ، وأحمد ، وعيسى ومحمد ، وهارون ، فحمل بغا موسى بن زرارة إلى المتوكل ، وأباح قتلة يوسف ، فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا ، وسبى منهم خلقا كثيرا ، فباعهم وسار إلى بلاد الباق ، فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس ، صاحب الباق ، والباق من كورة البسفرجان ، ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية فأقام بها شهرا ، ثم سار إلى تفليس فحصرها . ذكر غضب المتوكل على ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم القضاء  

            وفيها غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد ، وقبض ضياعه وأملاكه ، وحبس ابنه أبا الوليد ، وسائر أولاده ، فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار ، وجواهر قيمتها عشرون ألف دينار ، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم ، وأشهد عليهم جميعا ببيع أملاكهم .

            وكان أبوهم أحمد بن أبي دؤاد قد فلج ، وأحضر المتوكل يحيى بن أكثم من بغداد إلى سامرا ، ورضي عنه ، وولاه قضاء القضاة ، ثم ولاه المظالم ، فولى يحيى بن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر ، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي ، وكلاهما أعور ، فقال الجماز :


            رأيت من الكبائر قاضيين هما أحدوثة في الخافقين     هما اقتسما العمى نصفين قدا
            كما اقتسما قضاء الجانبين     وتحسب منهما من هز رأسا
            لينظر في مواريث ودين     كأنك قد وضعت عليه دنا
            وفتحت بزاله من فرد عين     هما فأل الزمان بهلك يحيى
            إذ افتتح القضاء بأعورين

            ذكر ولاية العباس بن الفضل صقلية وما فتح فيها  

            قد ذكرنا سنة ثمان وعشرين ومائتين أن محمد بن عبد الله ، أمير صقلية ، ( توفي سنة ست وثلاثين ومائتين ) ، فلما مات اجتمع المسلمون بها على ولاية العباس بن الفضل بن يعقوب ، فولوه أمرهم ، فكتبوا بذلك إلى محمد بن الأغلب أمير إفريقية فأرسل إليه عهدا ( بولايته ، فكان العباس إلى أن وصل عهده يغير ، ويرسل السرايا ، وتأتيه الغنائم .

            فلما قدم إليه عهده بولايته خرج بنفسه وعلى مقدمته عمه رباح ، فأرسل في سرية إلى قلعة أبي ثور ، فغنم ، وأسر ، وعاد ، فقتل الأسرى ، وتوجه إلى مدينة قصريانه ، فنهب ، وأحرق ، وخرب; ليخرج إليه البطريق ، فلم يفعل ، فعاد العباس .

            وفي ثمان وثلاثين ومائتين خرج حتى بلغ قصريانه ومعه جمع عظيم ، فغنم ، وخرب وأتى قطانة ، وسرقوسة ، ونوطس ، ورغوس ، فغنم من جميع هذه البلاد ، وخرب وأحرق ، ونزل على بثيرة ، وحصرها خمسة أشهر ، فصالحه أهلها على خمسة آلاف رأس .

            وفي سنة اثنتين وأربعين سار العباس في جيش كثيف ، ففتح حصونا خمسة .

            وفي سنة ثلاث وأربعين سار إلى قصريانه ، فخرج أهلها ، فلقوه ، فهزمهم ، وقتل فيهم ، فأكثر ، وقصد سرقوسة وطبرمين وغيرهما ، فنهب ، وخرب ، وأحرق ، ونزل على القصر الجديد وحصره ، وضيق على من به من الروم ، فبذلوا له خمسة عشر ألف دينار ، فلم يقبل منهم ، وأطال الحصر ، فسلموا إليه الحصن على شرط أن يطلق مائتي نفس ، فأجابهم إلى ذلك ، وملكه ، وباع كل من فيه سوى مائتي نفس ، وهدم الحصن . ذكر ابتداء أمر يعقوب بن الليث  

            وفيها تغلب إنسان من أهل بست ، اسمه صالح بن النضر الكناني ، على سجستان ، ومعه يعقوب بن الليث ، فعاد طاهر بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان واستنقذها من يده .

            ثم ظهر بها إنسان اسمه درهم بن الحسين ، من المتطوعة ، فتغلب عليها ، وكان غير ضابط لعسكره ، وكان يعقوب بن الليث هو قائد عسكره ، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه ، وعجزه ، اجتمعوا على يعقوب بن الليث ، وملكوه أمرهم ، لما رأوا من تدبيره ، وحسن سياسته ، وقيامه بأمورهم ، فلما تبين ذلك لدرهم لم ينازعه في الأمر ، وسلمه إليه ، واعتزل عنه ، فاستبد يعقوب بالأمر ، وضبط البلاد ، وقويت شوكته وقصدته العساكر من كل ناحية ، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى . ذكر عدة حوادث

            في هذه السنة ولي عبيد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد   .

            وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان في ربيع الأول ، فولي الجزية ، والشرطة ، وخلافة المتوكل ببغداذ ، وأعمال السواد وأقام بها .

            وفيها أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي ، ودفعه إلى أوليائه ، فحمل إلى بغداد ، وضم رأسه إلى بدنه ، وغسل ، وكفن ، ودفن ، واجتمع عليه من العامة ما لا يحصى يتمسحون به .

            وكان المتوكل لما ولي نهى عن الجدال في القرآن وغيره ، وكتب إلى الآفاق بذلك .

            وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور وكان والي مكة .

            وفيها قام رجل بالأندلس بناحية الثغور وادعى النبوة ، وتأول القرآن على غير تأويله ، فتبعه قوم من الغوغاء ، فكان من شرائعه أنه كان ينهى عن قص الشعر وتقليم الأظفار ، فبعث إليه عامل ذلك البلد ، فأتي به ، وكان أول ما خاطبه به أن دعاه إلى اتباعه ، فأمره العامل بالتوبة ، فامتنع ، فصلبه .

            وفيها سارت جيوش المسلمين إلى بلاد المشركين ، فكانت بينهم وقعة عظيمة كان الظفر فيها للمسلمين ، وهي الوقعة المعروفة بوقعة البيضاء ، ومشهورة بالأندلس . وفيها : طلب المتوكل من أحمد بن حنبل المجيء إليه ، فسار إليه ولم يجتمع به ، بل دخل على ولده المعتز . [إهانة قاضي مصر وحلق لحيته   ]

            وفي سنة سبع وثلاثين : بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث ، وأن يضربه ويطوف به على حمار ، ففعل ونعم ما فعل; فإنه كان ظالما من رءوس الجهمية ، وولي القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك بعد تمنع ، وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطا; ليرد المظالم إلى أهلها . [كتاب المتوكل بتخلية كل من كان حبسه الواثق في خلق القرآن ]  

            وفي هذه السنة : قرئ كتاب [المتوكل ] بتخلية كل من كان حبسه الواثق في خلق القرآن في الأمصار والكور .

            [طلوع شيء مستطيل من ناحية المغرب ]

            وفيها : طلع شيء مستطيل من ناحية المغرب دقيق الطرفين ، عريض الوسط ، من بعد وقت المغرب إلى وقت العشاء ، ليس بكوكب الذنب ، ولا بضوء كوكب أبيض ، أفلم يزل يطلع في ذلك الوقت خمس ليال .

            [ظهور نار في بعض كور عسقلان ]  

            وفيها : ظهرت نار في بعض كور عسقلان تحرق المنازل والمساجد والبيادر ، فهرب الناس ، فلم تزل تحرق حتى مضى ثلث الليل ثم كفت .

            وفيها : سقط بالبصرة برد كبار ، فكسر ثمانية آلاف نخلة .

            [اكتمال بناء جامع سامراء ]  

            وفيها : كمل بناء جامع سامراء ، [كان ] وقد ابتدئ في بنائه في سنة أربع وثلاثين ، وفرغ منه وصلى فيه المتوكل في رمضان سنة سبع وثلاثين وبلغت النفقة عليه ثلاثمائة ألف وثمانية آلاف ومائتين واثني عشر دينارا وربع وسدس دينار ، واستعمل فيه آجر النجف وأنقاضه من السقوف والأبواب وغيرها ، ونقوض حملت من بغداد ، وإنما هذه النفقة على البنائين والنجارين والصناع ، وما شاكل ذلك ، وحملت القصعة والحجارة التي في الفوارة من باب الحرة في الهاروني على عجل ، ومر بها الفيلة [الثلاثة ] التي كانت للمتوكل ، وأنفق مع ذلك في حمولتها إلى أن دخلت المسجد ألف وخمسمائة دينار ، ولولا الفيلة لأنفق عليها ضعف ذلك ، واستعمل الطوابيق الزجاج التي في المقصورة ، وهي ألفان وأربعمائة طابق بألفين وأربعمائة دينار ، وأنفق [المتوكل ] على الأطواق الستة التي جعلت زيجات لها ألفين وأربعمائة دينار .

            وأنفق المتوكل على القصر المعروف بالعروس ثلاثين ألف درهم .

            وأنفق على مواضع سوى [النفقة على ] المدينة المعروفة بالمتوكلية مائة ألف ألف واثنين وثمانين ألف ألف درهم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية