الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            أخبار القرامطة وأخذهم الحاج  

            في سنة أربع وتسعين ومائتين ، في المحرم ، ارتحل زكرويه من نهر المثنية يريد الحاج ، فبلغ السلمان ، وأقام ينتظرهم ، فبلغت القافلة الأولى واقصة سابع المحرم ، فأنذرهم أهلها وأخبروهم بقرب القرامطة ، فارتحلوا لساعتهم .

            وسار القرامطة إلى واقصة ، فسألوا أهلها عن الحاج ، فأخبروهم أنهم ساروا ، فاتهمهم زكرويه ، فقتل العلافة ، وأحرق العلف ، وتحصن أهل واقصة في حصنهم ، فحصرهم أياما ، ثم ارتحل عنهم نحو زبالة ، وأغار في طريقه على جماعة من بني أسد .

            ووصلت العساكر المنفذة من بغداذ إلى عيون الطف ، فبلغهم مسير زكرويه من السلمان ، فانصرفوا ، وسار علان بن كشمرد جريدة ، فنزل واقصة بعد أن جازت القافلة الأولى .

            ولقي زكرويه القرمطي قافلة الخراسانية بعقبة الشيطان راجعين من مكة ، فحاربهم حربا شديدة ، فلما رأى شدة حربهم سألهم : هل فيكم نائب للسلطان ؟ فقالوا : ما معنا أحد ، قال : فلست أريدكم .

            فاطمأنوا وساروا ، فلما ساروا أوقع بهم ، وقتلهم عن آخرهم ، ولم ينج إلا الشريد ، وسبوا من النساء ما أرادوا ، وقتلوا منهن .

            وكانت نساء القرامطة  يطفن بين القتلى من الحجاج بالماء صفة أنهن يسقين الجرحى فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه لعنهن الله وقبح أزواجهن . ولقي بعض المنهزمين علان بن كشمرد ، فأخبروه خبرهم ، وقالوا له : ما بينك وبينهم إلا القليل ، ولو رأوك لقويت نفوسهم ، فالله الله فيهم ! فقال : لا أعرض أصحاب السلطان للقتل ، ورجع هو وأصحابه .

            وكتب من نجا من الحجاج من هذه القافلة الثانية إلى رؤساء القافلة الثالثة من الحجاج يعلمونهم ما جرى من القرامطة ، ويأمرونهم بالتحذر ، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصرة ، والرجوع إلى فيد والمدينة إلى أن تأتيهم جيوش السلطان ، فلم يسمعوا ، ولم يقيموا .

            وسارت القرامطة من العقبة بعد أخذ الحاج ، وقد طموا الآبار والبرك بالجيف ، والتراب ، بواقصة ، والثعلبية ، والعقبة ، وغيرها من المناهل في جميع طريقهم .

            وأقام [ زكرويه ] بالهبير ينتظر القافلة الثالثة ، فساروا فصادفوه هناك ، فقاتلهم زكرويه ثلاثة أيام ، وهم على غير ماء ، فاستسلموا لشدة العطش ، فوضع فيهم السيف وقتلهم عن آخرهم ، وجمع القتلى كالتل ، وأرسل خلف المنهزمين من يبذل لهم الأمان ، فلما رجعوا قتلهم ، وكان في القتلى مبارك القمي ، وولده أبو العشائر بن حمدان .

            وقيل إن عدة القتلى بلغت عشرين ألفا ، ولم ينج إلا من كان بين القتلى فلم يفطن له فنجا بعد ذلك ، ومن هرب عند اشتغال القرامطة بالقتل والنهب ، فكان من مات من هؤلاء أكثر ممن سلم ومن استعبدوه ، وكان مبلغ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينار .

            وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأسبابهم ، فإنهم لما عزموا على الانتقال من مصر إلى بغداذ خافوا أن يستصحبوها فتؤخذ منهم ، فعملوا الذهب والنقرة سبائك ، وجعلوها في حدائج الجمال ، وجميع ما لهم من الحلي والجوهر ، وسيروا الجميع إلى مكة سرا ، وسار من مكة في هذه القافلة فأخذت .

            وبث زكرويه الطلائع خوفا من عسكر الخليفة الذي كان بالقادسية ، وأقام ينتظر وصول من كان في الحج من عسكر الخليفة وأصحابه ، فكانوا بفيد ينتظرون هل تعرض القرامطة للحاج أم لا ، فكان معهم جماعة من التجار أرباب الأموال ، فلما بلغهم ما صنع القرامطة أقاموا ينتظرون وصول عسكر من عند الخليفة ، فسار زكرويه إليهم

            وغور الآبار ، والمصانع ، والمياه إلى فيد ، فاحتمى أهل فيد ومن بها من الحجاج بالحصنين اللذين بفيد وحصرهم فيهما القرامطة ، وأرسل زكرويه إلى أهل فيد يأمرهم بإخراجهم أو بتسليم الحصنين إليه ، وبذل لهم الأمان على ذلك ، فلم يجيبوه ، فتهددهم بالنهب والقتل ، فازداد امتناعهم ، وأقام عليهم عدة أيام ، ثم سار إلى النباج ثم إلى حفير أبي موسى . مقتل زكرويه قتل زكرويه لعنه الله  

            لما فعل زكرويه بالحجاج ما ذكرناه عظم ذلك على الخليفة خاصة ، وعلى جميع المسلمين عامة ، فجهز المكتفي الجيوش ، فلما كان أول ربيع الأول سير وصيف بن صوارتكين مع جماعة من القواد والعساكر إلى القرامطة ، فسار على طريق حفان ، فلقيهم زكرويه ، ومن معه من القرامطة ، ثامن ربيع الأول ، فاقتتلوا يومهم ، ( ثم حجز بينهم الليل ، وباتوا يتحارسون ، ثم بكروا للقتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا ) ، فقتل من القرامطة مقتلة عظيمة .

            ووصل عسكر الخليفة إلى عدو الله زكرويه ، فضربه بعض الجند وهو مول بالسيف على رأسه ، فبلغت الضربة دماغه ، وأخذه أسيرا ، وأخذ خليفته وجماعة من خواصه وأقربائه ، وفيهم ابنه ، وكاتبه ، وزوجته ، واحتوى الجند على ما في العسكر .

            وعاش زكرويه خمسة أيام ومات ، فسيرت جيفته والأسرى إلى بغداذ ، وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام ، فأوقع بهم الحسين بن حمدان ، فقتلوهم جميعا ، وأخذوا جماعة من النساء والصبيان ، وحمل رأس زكرويه إلى خراسان ، لئلا ينقطع الحجاج ، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحداد ، والآخر بالمنتقم ، وهو أخو امرأة زكرويه ، كانا قد سارا إليهم يدعوانهم إلى الخروج معهم ، فلما

            أخذوهما سيروهما إلى بغداذ ، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق ، فقتل بعضهم ، وحبس بعضهم ، ومات بعضهم في الحبس .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية